شعار قسم مدونات

سكيزوفرينيا العالم الثالث

مدونات - النقد
أَكْثرْ بأولئك الذين يصدحون في المنابر ليل نهار، ويقسمون الرؤوس من أجل التغيير والتقدم والإصلاح ويهيمون بلاغة في الخطاب وتحمر وجوههم غضبا وهمة ظاهرية على ما آلت إليه أوضاع المسلمين أو بشكل عام حال العالم الثالث، حتى إنهم يدمعون أحيانا ويطربون الآذان بعسل الكلام ونظم موزونة على طريقة تشي جيفارا أو مالكوم إكس، لكن ما إن يعتب نزل المسؤولية ويلقى ثقة الناس حتى يبدل الخيط الأبيض أسود، ويحتذي خطى المفسدين في الأرض.
ينهى ذو الدينار الأسود المشيَّم في الوجه صلاة الفرض وتراه مقبلا وكأنه يصافح الملائكة، ثم لتُدهش عندما يبيعك بضاعة مغشوشة ويلقي عليك ما لذ من السباب، أو تلك الأستاذة التي كانت تربي تلاميذها على العلمانية والديمقراطية الإفرنجية والمساواة ونمط عيش الدول الإسكندنافية وتحرضهم على الردة في دينهم، لتجدها أسوأ من النظام النازي تعذيبا وأشد من الصهاينة تمييزا عنصريا، أو ذاك المدير الأكاديمي الذي يلقي عليك محاضرة قوامها ساعات حول التنمية المستدامة وهو الذي تقوم عليه المظاهرات ضده من أجل خلق "شروط العيش" لطلابه، أو ذاك المدرب الذي يؤطر دورة تدريبية حول بناء الأسرة الفاضلة وهو لم ينجح في زواجه.

يعاني مواطن العالم الثالث من انفصام شخصية سحيق، بالطبع لا نتحدث عن تلك النخبة التي تنوي الحسنى وتصنع الأحسن، تلك النخبة التي تكد ولا تمل، تفقه الواقع ولا تذوب فيه، وتتكلف ولا تتشرف، تلك الفئة التي تشكل الاستثناء من السواد الأعظم. بل عن تلك الفئة التي لم تع رسالتها بعد في الحياة، تموت وتحيا ولا يهلكها إلا الدهر.

التعليم هو السبيل الأنجع للتغيير، لا نعني التعليم المدسس، أو التعليم الذي يكتفي بالتلقين، وإنما تعليم على الرسالية وتجنب العبثية في الحياة، ورمي الرؤية نحو الأفق لا بجانب الأنوف. وليس تعليما يُتصوّر في الذهن بالمدرسة وطاولة وسبورة.

حقا إنها ازوداجية تحتاج إلى دراسة سيكولوجية طويلة المدى، فئران تجاربها جيوش من تلك الكائنات التي تمشي على رجلين وتدبّ على أرض العالم الثالث، التي تقول ما لا تفعل، وتأمر بالمعروف وتنسى نفسها. دراسة يجب أن تشمل كل صغيرة وكبيرة، بالإضافة إلى شحن ديني ثقيل وواسع المدى لا يعرف الإسلام بمجموعة روحانيات فردية تقتصر على المسجد أو ترديد أذكار الصباح والمساء. أضف إلى ذلك خطابا عقلانيا يشكل الوعي الجماعي لا ذاك الخطاب العاطفي الإنشائي، الذي تسمعه من فاه كل خطيب، يدغدغ المشاعر ويهيج المكنون ولا يسمن ولا يغني جوع العقول.

الحل إذًا هو التغيير! ذاك المصطلح الملغم الذي يوحي بكثير من الدلالات، بالطبع ليس تغييرا من أجل التغيير، وقطعا ليس معناه تنازلا عن المبادئ التي بنت هوية الجموع أو الأفراد، بل تغيير ينصاع للمبادئ ويخدمها، بدءا من تغيير نمط تفكير مواطن العالم الثالث وسلخه من صفة النكرة والهوان عبر توعيته وتثقيفه إيجابا، وأن يخلق هوية تعرفه ويعتز بها وألا يرفع الراية البيضاء أمام كل ريح تحمل مبادئ دخيلة. والتعليم هو السبيل الأنجع والمثالي لذلك، لا نعني التعليم المدسس، أو التعليم الذي يكتفي بالتلقين، وإنما تعليم على الرسالية وتجنب العبثية في الحياة، ورمي الرؤية نحو الأفق لا بجانب الأنوف. وليس تعليما يُتصوّر في الذهن بالمدرسة وطاولة وسبورة، بل أشمل من ذلك، ليس ذا هدف آني وإن كان على المدى البعيد، وإنما تعليم في التربية وتزكية للنفوس، وأن يصبح المرء غاية في ذاته لا وسيلة مادية.

يبدأ كل تغيير من الفرد نفسه الذي يبتغي تغيير الوسط، وتزكية الذات والوعي بها وتمييز الحق من الباطل هي أركان بناء التغيير حتى لا تكون الذات مزخرفة الظاهر قبيحة الباطن، ومن ثَم نقع في لعنة سكيزوفرينية جديدة: تغيير الحال قبل المقال، اقتصاد في القول واستفاضة في العمل، وثبات على المبادئ… ونرجو ألا نكون من أولئك الذين يقولون مالا يفعلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.