شعار قسم مدونات

الصرح العلمي وسؤال الفاعلية المعرفية

blogs مكتبة

مما تظاهرت عليه شواهد البناء والتشييد، ونهض به قوام الأمة على مر العصور، تَشَوُّفُ رواحلها الأماجد، وشبابها الرّوافد، لحمل مشعل التغيير وتقرير السبيل بالاتكاء على معالم التيسير، راجين نهضتها وإعادة هندسة سُؤددها الضائع.. وإقامتها على وِزان تمتد فيه أواصرها الحضارية ـ المنعية ـ، يُوسم من خلال حركته النُّظراء المؤهلون بوسم "الإصلاح"، يعيدون تقويم الجدار المتداعي، بمواد علمية عملية متينة. 

إن المتتبع لمسير الأمة في مسار نضجها وتوجهها، يلمح ما تعانيه من أزمات طاحنة، ويعي حجم التحديات التي تواجه مستقبلها، وما يرتبط بذلك من ركود حركة الاجتهاد والإبداع والتحليل والموازنة ورُقادها، وعدم قدرة أفرادها ـ المتعددة اختصاصاتهم ـ على ملاءمة الإنتاج المحلي ـ المسند بالعَبق التراثي ـ مع المُتَغَيَّر اللحظي والوافد الطارئ ـ المُعَولَمِ المُطَلسَم ـ، في ضوء مآلات وسياقات تتعدد أنساقها وبَّرادِيغْمَاتُها (les paradigmes) المعرفية الضابطة وإحالاتها الاجتماعية الصارخة.. 

ولعل المساهمة في تحقق الوعي بأزمة الرّان الكثيف المتراكم على جسد مجتمعنا، رهين بانتصاب قُوةٍ كِنُّها تحصينٌ ثقافي متنوع الأبعاد، يشع معه الأمل في استرداد فاعلية الصروح العلمية المنتشرة على الأرجاء، وتدشين المصانع الرئيسية للمعرفة المستوعبة الشاملة لأدرب الحضارة وتبدلات المجتمع وطبائع القيم؛ وتعددية الرؤيا والامتداد بالبحث العلمي ـ المعالِج ـ ليصير منطلقا قويما لتفعيل مجمل مباغي التكوين، تنزيلها فكرا وفعلا، فقها وتأصيلا، في إطار ـ مرجعية ثَبَوتُقٍ حضاري مُجَدَّد ـ تقوم على تجديد القواعد وتجويد الاستيعاب، وتأصيل نِتاج القرون الأولى المشهود لها بالخيرية.

 

إن القصد لإحاطة التحصيل العلمي في خضم التحصيل الإيماني ـ باجتهادات الحضارة والتراث ـ يشيد للأمة وجهة تعيدها إلى نقطة ارتكازها، تَنداحُ منها أنصبة أصلها، يصبح معها العلم نافعا والعمل خالصا؛ ويتحقق بذلك (كمال الفقه فيها)

ومحاولة ترسيم الآفاق على نسق حقيقي يمضي بالرؤية العلمية نحو تبني إبستمولوجية (épistémologie)  راقية تتناغم والمتغيرات التي شهدتها مناهج "الأخذ والتلقي"، والإعلان عن ما سماه فضيلة العلامة الألمعي الدكتور "الشاهد البوشيخي"، في شهادته على فسوق مناهج المعرفة العلمية، (توبة منهجية نصوح تراعي واقع الحال، وتدرس مختلف المباحث بناء على متغيراته، مستحضرة السياق التاريخي والحضاري ونزعة التراث وإِوَلِوياتِه المختلفة وتوليفاته المتشابكة).. وتلك أقوم سبيل لمعالجة مداخل الاختلال … 

إن القصد لإحاطة التحصيل العلمي في خضم التحصيل الإيماني ـ باجتهادات الحضارة والتراث ـ يشيد للأمة وجهة تعيدها إلى نقطة ارتكازها، تَنداحُ منها أنصبة أصلها، يصبح معها العلم نافعا والعمل خالصا؛ ويتحقق بذلك (كمال الفقه فيها)، عناية بما استدرجته الآية الكريمة في سياق الإرشاد : "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"، ورغّبت فيه السنة في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" .. 

ولا ينفع العلم إلا إذا حُصّل من مدخل إكساب الأمة وأفرادها القدرة على ترجمة الأفكار والمعارف إلى مخطوطات معرفية ممتدة، يستقويها الإيمان والإخلاص ابتداء، وتحكمها حكامة البدل والحرص على الجمع والتحصيل، دون التخلي عن العمل والتطبيق، إذ قصد العلم العمل، وقد قرر الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في المقدمة الخامسة من موافقته أن: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لا يدل على استحسانه دليل شرعي" .. 

إن ربط العمل، أو بعبارة أكثر إجرائية، ربط المعرفة بآليات التوظيف والإعمال، مقصد شرعي من شأن تحققه واقعا، انتقال المستوى من الدرك الأسفل إلى أفق اجترار الفاعلية والإنتاجية… وذلك لن يتم إلا إذا تم تنزيل أساساته المتينة في عمق المنظومة المسؤولة عن تشكيل عقول النخبة، وتوطينه في برامج تكوين الأطر، للتمكن من إعداد جيل طامح مهووس بهاجس العمل، يبحث وينقب بنهم.. 

إن السعي نحو أفق شمولي لإنشاء صروح علمية جامعة لمختلف الأهداف البَنَّاء دون خطب شعواء، المؤتية خَلاَقها على تمام الاستواء، بتحصيل يضمن مكاسب الاستقواء، يجلي حقيقة الرَّجع إلى قويم الصورة التي ينشدها ما يصطلح عليه مزجا وتركيبا (الحرم الجامعي)؛ باعتباره الفضاء ـ الوظيفي ـ الأول الذي يُرجى منه المضي نحو ترسيم شعاع يهندس سبيل الانعتاق من أصفاد الممارسة التقليدية أو النزوح إلى الركود العلمي الذي طغى على مختلف أروقة وفضاءات البحث العلمي … 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.