شعار قسم مدونات

جبرية العلمنة مجهولة المصدر

blogs - ناس في الشارع
* ملحوظة: يتبنى هذا المقال تحديد العلمانية كما صاغه الراحل عبد الوهاب المسيري كـ "علمانية شاملة". مع الإشارة إلى أن العلمانيَّة مقبولةٌ سياسيا فقط إذا حُدّدت على أنها تمييز بين حقوق الله وحُقـوق الناس.. أما إذا فُهمَـت على أنها إثبات لحقوق الخَلْـق وإنكار لحقِّ الحـقِّ سبحانه في إقرار الوجود به وتعظيمه وحاكميته، فهذا ببساطة إلحاد يستوجب أن يُوضَـع صاحبُه في سياق مرحلة مكية خاصة به.. إن جاز القول.
في مجتمع الاتصالات الفائقة والوصول السريع للمعلومة تطورت إمكانيات "القوى القادرة"، دولاً ومنظماتٍ وشركاتٍ ومراكزَ دراسات، على التأثير في التوجهات الإنتاجية والاستهلاكية، والميول الثقافية والفنية والأنماط الاقتصادية والقناعات السياسية، حيث يتم بصورة دورية إنتاج صَرَعَات معينة تمارسها في البداية فئة محدودة داخل جيل الشباب صغير السن، بالأخص الفئة التي تعيش قطيعة سويسيو أسَرية، ثم تتعمم هذه الصَّرعَات رويدا بالتأثير والتقليد. ولأن العالم الإسلامي "مُتورّط" في تبني الموقف السياسي الغربي من المسيحية القروسطوية، فقد سحب هذا الموقف ليعممه على تصرفاته إزاء امتداداته سواء الداخلية منها أو التي يجب أن تحدد طبيعة علاقاتنا بـ"الآخر".

ولا نَحتاج إلى التأكيد بأن هذا الأمر يحمل من الجَبر والإذعان أكثر مما يحمل من الطَوعية. مع الإشارة إلى أن التيارات المادية في عالمنا العربي تصر على رفض دعوى "تربّص الآخر" بحكم تأسسها على فرضيةِ المؤامرة سيئةِ الصيت.

في مجتمع ظل عصورا وهو يعتبر العلاقة الجنسية أكثر الحميميات خصوصية، وخلال فترة قصيرة قد تعد بسنوات قليلة، تصبح هذه العلاقة استهلاكية مبتذلة مستسهلة، بعد أن وضعتها "التأثيرات مجهولة المصدر" في قلب اهتمامات الشباب سطحي التكوين الروحيّ.

ما هي العلمنة مجهولة المصدر؟ إنها علمنة تتم عبر برمجة متواصلة "للجمهور" على استجابات محددة، دون أن يهتم المواطن أو حتى كثير من النخب السياسية بتشخيص الجهات التي تقف وراءها أو تشرف على تنفيذها. والوصف بأنها "مجهولة المصدر" متعلق بالوعي بها من لدن المجتمعات المغلوبة، وإن كانت عمليات التنميط في الدول الغربية قد وصلت حدا يفوق بكثير نظيره في هذه المجتمعات.

فليست الدول دائما من يفرض شكليات العلمنة في الفن والمعمار والاقتصاد، إن الدولة ـ خاصة المُسلمة ـ عادة قد لا تضطر إلى التصريح بأن "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، إلا أن هناك أحداثا كثيرة تدل سياقاتُها على أنها مقصودة بوعْي كَيدِيّ، ما يفرض على الأقل ضرورة "الشك" في الطريقة التي يغطي بها الإعْلام ـ على سبيل المثال ـ حدثا له أبعاد "علمانية" ينتمي لآلية الفصل: كفضيحة الحلقة الجديدة من تلفزيون الواقع، أو تطورات قضيةِ مثليّ جنسيّ يتدَاولها العوام أسبوعا أو أسبوعين، يتلوها خبر آخر "صادم" عن جماعة تنوي تنظيم إفطار في نهار رمضان.. وهكذا.

وتُدرَك "التأثيرات مجهولة المصدر" بتحليل السياق ومقارنة الحوادث بالدوافع المفترضَة، فعندما تمنح الدول والمنظمات غطاءً قويا لتطبيق علماني ما، تكون المعارضة حوله قد خفت وحُقَنُه السابقة قد أنتجت مفعولها بحيث تحولت من مجرد تصرفات "متمردة" على الأنماط السائدة، إلى استجابات متكررة أشبه بالإدمان الناتج عن عدوى، فإذا رفضها المجتمع "ظهرت" بدائل علنية تتخذ من الشعارات الصادمة المتطرفة جوهر حركات احتجاجية، وقد يكتمل العمل حين يقود هذه الحركات عدد من المجنسين بجنسيات أجنبية كما كان الحال في المغرب أيام قضية جمعية "مالي" التي أعلنت تنظيم الإفطار في نهار رمضان وقادها عدد من "المغاربة" الذي يحملون الجنسية الفرنسية.

إن الواقع مزدحم بالنماذج الحسية التي تشكل ملامح مجتمع غريزيّ: يشتكي الأفراد عادة من انزواء الأخلاق إلى الهوامش السلوكية الخاصة كما في الأمثلة التالية: يتحوُّل طلب العلم من فريضة قرآنية (اقرأ) لها أثر أنطولوجي على الفرد إلى وسيلة لتحقيق الذات المادية للكائن العَولمَي. ويتبرم الملاحظ من استسهال الشباب للمسالك السلبية الغريبة تحت مبدأ أبويّ مستحدث وخطير: "دعه يجرب". فضلا عن تدني الاعتبارات العائلية، وهشاشة المؤسستين الحميميتين الرئيسيتين الحاضنتين: الأسرة والعائلة.

ومن المفارقات أن "الرشوة" غير مقبولة أخلاقياً وتوضع ملصقات التحذير منها على شبابيك الأداء، لكن الاعتقاد لا يزال مترسخا بأنها ضرورة براغماتية. ومن الغرابة أن يستضيف برنامج تلفزيوني خبراء يشتكون من استفحال ظاهرة الأمهات العازبات ثم تعرض نفس القناة مسلسلات أجنبية مدبلجة باللهجة المحلية تقدم نموذج الأم العازبة في قالب محبب مقبول مجتمعيا ممكن للتجربة.. إننا بإزاء فصل/عزل الأخلاقيات والقيم العليا في الجلسات العائلية وحوارات المقاهي فقط، منسحبةً أمام "واقعية" الحياة الجديدة التي تشرف الدولة/ الوحش على تفاصيلها.

وفي مجتمع ظل عصورا وهو يعتبر العلاقة الجنسية أكثر الحميميات خصوصية، ويحيطها عن طريق مؤسسة الزواج بهالة من القداسة، فجأة، وخلال فترة قصيرة قد تعد بسنوات قليلة، تصبح هذه العلاقة استهلاكية مبتذلة مستسهلة، بعد أن وضعتها "التأثيرات مجهولة المصدر" في قلب اهتمامات الشباب سطحي التكوين الروحيّ، بل ومثارَ اهتمام فئات واسعة ممن يوصفون بأنهم "محصّنون" دينيا، وهو ما حدا بباحث مغربي أن يصدر قبل فترة دراسة صادمة حول الجنس كمادة تكاد تصبح "مجانية".

تظل الدولة الرسمية مرجعا لتحديد طبيعة التفاعلات الرئيسية السارية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي على كل ما سواها من المؤسسات المرجعية الصانعة لقيم الفرد في عالم ما بعد الحداثة، فعلى سبيل المثال تحضر الدولة في ذهن المواطن المغربي متولية عددا من المهام الأبوية.

من الطبيعي أن يكون لهذا التغيير من النُّدُوب السوسيوثقافية على الشخصية الجماعية ما لا يخفى على عين الناقد الحصيف. إن تذويب هذا الجدار الفاصل في وعي الناس بين بيئتين متنافرتين للسلوك الجنسي هو إحدى العلامات الرئيسية على نجاح العلمنة الجبرية في تحييد التأثير الروحي على المساحات الحسية في سلوك الأفراد. هنا، تمارس "العلمانية الجبرية" رعاية مُطلقة لنزعات المتع الحسّية من خلال الحفاظ على مستوى النشر الدائم لها بين أكبر نسبة من (الجيل الحالي)، بحيث تصبح مستبطنة في سلوكه قادرة على أن تصبح نمطَ تربية لـدى (الجيل القادم)، وبالمقابل تدفع في اتجاه جعل الفرد يقلص المساحة التي ينشط فيها الوازع الأخلاقي. ويظل الإعلام أهم ناقل لعمليات العلمنة الجبرية هذه.

ما دامت الأنظمة تنظر إلى الْمجتمعات من منظار غوستاف لوبون: جمهور سلبي في صالة انتظار، كيان قاصر غير مرغوب في آرائه التي يجب توجيهها نحو ما تستهدفه الاستراتيجيات الثقافية والسياسية والاقتصادية. لقد صور الأميركيانِ ستيفن كولمان وكارين روس في كتابهما: "الإعلام والجمهور" هذا الدور الذي تلعبه الميديا للمساهمة في تكريس قصور الجماهير بالطريقة التي وصفها "لوبـون".

هكذا تتغلغل ميول المتعة بفعل العلمنة الجبرية، إراديا ولا إراديا عن طريق تبني السلوك العلماني بالتدرج والإخضاع والصدمة. تظل الدولة الرسمية مرجعا لتحديد طبيعة التفاعلات الرئيسية السارية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي على كل ما سواها من المؤسسات المرجعية الصانعة لقيم الفرد في عالم ما بعد الحداثة، فعلى سبيل المثال تحضر الدولة في ذهن المواطن المغربي متولية عددا من المهام الأبوية التي تتسق مع هذه القيم، فهي التي تنظم حملات التلقيح والتبرع، والبرامج التوعوية، والمهرجانات الترفيهية، لا شك أننا نستحضر هنا دولة هوبز، دولة / وحش له كامل الحق في التصرف حمايةً لامتداده الوجودي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.