شعار قسم مدونات

الوعظ المعوج!

blogs - خطاب ديني
عندما يكون هناك مجتمع يقوم على أساس النظام الإسلامي، من حيث التشريعات والمؤسسات والقيم، فعندما تحدث معاصي وانحرافات يجب أن يتجه الوعظ والإرشاد الى الناس باستمرار لمنع الإنحرافات المتوقع حدوثها. أما عندما يتسرب الخلل إلى الوضع المؤسسي فهو يشبه البدعة من حيث الاستقرار ومن حيث مشابهة المنكر للمعروف، فيصير المنكر معروفا، والمعروف منكرا، فتتعارف النفوس على الأوضاع المنحرفة ولو بقيت التشريعات صحيحة دون تبديل من حيث القوانين الشرعية، كما تتعجب النفوس من الأوضاع الشرعية الصحيحة أو تستبعده ثم تستنكره!
فعندئذ يجب أن يتجه الوعظ والإرشاد والمواجهة إلى الانحرافات الفردية وأن يتجه الوعظ والضغط والإصلاح إلى الوضع المؤسسي المنحرف لتصحيحه؛ فلو خاطبت الأشخاص فقط وتركت الأوضاع المنحرفة كانت الفائدة قليلة وغير مطردة ولا ثابتة ثم لا تلبث أن تلتهمها الأوضاع المؤسسية.

ثم عندما يفحش الخلل بتبديل الشرائع والقوانين، بتبديل شريعة الله تعالى وإحلال قوانين وضعية مكانها؛ إما تبديلا جزئيا لبعض الأحكام، أو تبديلا كليا بمنع الرجوع إلى الشريعة مباشرة في الأحكام.. فعنئذ يجب أن يتجه الوعظ والدعوة، والإرشاد والإصلاح، والضغوط والحراك، إلى مجالات الانحراف بلا استثناء.

يتكلم بعض الدعاة عن تبرج النساء ويبكون وهم يذكرون عاقبة التبرج في الآخرة، وفحش (جريمة النمص!) لكنهم هم أنفسهم لا يحاولون تصحيح المؤسسات التي تدعم هذا التبرج.

فلا بد من بيان العقيدة وعلاقة التقنين والتشريع بها، ولا بد من بيان خطورة وانحراف وجرائم المؤسسات التي تحشر آلاف المظلومين تحتها وتفرمهم، ولا بد أيضا من استمرار الوعظ للمسلم ليتمسك بعقيدته ومقتضاها من جانب، ولئلا ينحرف تحت وطأة الغرائز أو ضغط انحراف المؤسسات على السواء.

يتجه الوعاظ إلى تحريم والتشديد على الموظف الفقير ألا يأخذ ورقة من العمل لغير الاستخدام للشركة أو المؤسسة الحكومية أو الخاصة، أو أن يُجري مكالمة خاصة من تليفون العمل، وعدم قبول رشوة.. وكل هذا صحيح، لكنهم لا يتكلمون عن مرتّبه المسروق والتفاوت الظالم والتفضيل بالأهواء.. بل يكلمونه عن القناعة، رغم سرقات الكبار لجهده وعرقه، والمليارديرات الذين سرقوا شعبا بأكمله ووضعوه في معاناة دائمة، ورغم سياسيين فاسدين وإعلاميين يحكمهم الفاسدون!

لا يتكلم الوعاظ عن الفساد المؤسسي المتحالف بين فاسدي رجال الأعمال والسياسيين والإعلاميين، بل إنهم فقط افترسوا هذا الضعيف وبكوا أمامه ليخاف من الله ـ في زعمهم. يتعامل الوعاظ والدعاة وكأن هناك نِصابا من لم يبلغه يقع تحت طائلة الوعيد والوعظ، فإذا وصلت السرقة والنهب إلى حد معين وتخطى حد الفقر إلى الغنى الفاحش احترموه ودعوا له بالبركة وأفلت من التهديد والتخويف الشرعي بل ومن الوعيد.. وسمعوا له وأطاعوا! ولا مانع عندئذ من بعض الهدايا!

يتكلم الوعاظ والدعاة عن حرمة الربا وبعضهم يبكي من حرمة وجريمة درهم ربا واحد وأنه كما جاء في الحديث مثل ست وثلاثين زنية.. وهذا حق. ولكنهم لا يتكلمون عن مؤسسات الربا الموجودة والتي تُفرض على الناس ويضطرون إليها، وإلغاء المؤسسات الشرعية كالوقف والتكافل، ولا يتكلمون عما هو أفحش فيمن وضع الناس في هذا الحرج عبر التقنينات المبدَّلة والمنفلتة من شريعة الله تعالى..

قد يتكلم بعض الدعاة عن تبرج النساء ويبكون وهم يذكرون عاقبة التبرج في الآخرة، وفحش (جريمة النمص!) لكنهم هم أنفسهم لا يحاولون تصحيح المؤسسات التي تدعم هذا التبرج وتسعى اليه وتؤسس له وتحميه وتنفّر من طاعة الله وتربّي أجيالا على هذا المنحى. بل ولا يتكلمون عن إباحة المحرّم قانونا وعدم تجريمه، بل ورعاية الدولة بنظامها القانوني للتعري وللرقص واستخراج التصريحات بذلك وضمان الحماية القانونية لذلك وتنظيم النقابات القانونية للراقصات، وفرض ضرائب على مكتسباتها الحرام.

يحدثون الفقير عن القناعة، رغم سرقات الكبار لجهده وعرقه، والمليارديرات الذين سرقوا شعبا بأكمله ووضعوه في معاناة دائمة.

كذلك الخمر ينكرونه فرديا بينما يقرّون النظم القائمة على إباحته القانونية! فالاعتراض فقط على التناول لا الإباحة! وفي النهاية يتآكل الوعظ الفردي، وتفترسه المؤسسات المحميّة بالقانون، مؤسسات إعلام ومناهج تعليم وتربية وغيرها..

في نهاية الشوط وقف هؤلاء الوعاظ والدعاة مع هجمة العلمانية ضد مبادي أي مشروع إسلامي، وساندوا العلمانيين الانقلابيين في مشروعهم العلماني الإرهابي! ليتآكل الوعظ وتتآكل الاستجابة الفردية، وليبقوا هم على هامش الحياة لونا مطلوبا في النسيج العام وطَعما لا بد منه للبعض، يزداد الناس منهم نفورا ويتوارون هم خلف الغيم، ويقبضون الأجرة، ويتراجع الإسلام ومشروعه وقضيته.. إلى أن يأتي آتٍ من حيث لا يحتسبون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.