شعار قسم مدونات

موت التلفاز.. بداية المعركة

مدونات - تلفزيون

مات التلفاز كما مات الكتاب الورقي من قبل، فهو في حضرة الاحتضار، تتأهب روحهُ للمغيب، قليل من الذكرى، وكثير من الغياب، هكذا تبدأ كل أشكال الموت أو الرحيل أو النسيان، سمّه ما شئت، فالنتيجة واحدة. وأي عزاء، وقد كنا نصفه بالمصيبة، حتى تبدت المصائب من بعده وصار هو "التلفاز" الذكرى الجميلة التي نحسب أنها لن تعود.

كانت الإذاعة من قبله، ورحلت هي الأخرى، وربما يرحل ما سيأتي. ويدور الزمان دورة كاملة، تحيّ الموتى، وترد المفقودين، وتستعيد بساطتها. بعيداً عن تراجيديا الموت التي ترافقنا حتى في بنات أفكارنا الصغيرة، والتي لم تبلغ الحلم بعد، ولكنن ربما هو القدر الذي يجعلها تتشظى وتقتل، وتتوالد وتستمر، يا إلهي كيف أكتب وكأني على جبهة ما، وليس أمام قرطاس وقلم. 

التلفاز أو الرائي بالعربية الفصيحة، أهم وسيلة إعلامية كانت تذوب في غياهب وسائل التواصل الاجتماعي كما يذوب السكر في الماء، ولم يكن شيء لينافس سكر الحياة وربما ملحها في السيطرة على عقول العباد وثروات البلاد. فليس أسهل من أن تسرق من ضاع عقله.

إنها حرب فكرية هو ذلك الإعلام بكل سياساته ووسائله.. هي دعوة للوعي واليقظة والسير بسياسات خاصة بنا مفيدة للأمة التي ننتمي إليها في مواجهة كل من يحاربها، فلا تخفى عليكم ميادين الحروب، وتنشغلوا بجبهات النار التي لا يسقط فيها إلا الدماء،

اليوم، أصبح التلفاز عجوزاً، هرماً، كبيراً، ومملاً، كثير الثرثرة بما يفيد وما لا يفيد، يجتر ماضيه، ويحاول أن يجد له مكاناً في المستقبل، شاخ وشاخ متابعوه، فأعرض عنه الشباب، كما أعرضوا عن الكتاب والإذاعة من قبل، فهو ما عاد يلائمهم، بل أصبحت الشبكة الشابة، التي تطرب أسماعهم وأنظارهم بما هو جديد دائماً، ومثير ومسلٍ، وربما … ما لا يسع ذكره هنا. أصبحت هي التي تسيطر على عقول الشباب واهتمامهم، وهم في ذلك سواء، عالم ومتعلم، ولاهٍ وملهٍ، كلٌّ يجد ضالته في هذا الفضاء الواسع الكبير.

كم صغرت الدنيا، وكم كبُرت الهموم، والتحديات وساحات المعارك التي تستهدف الأفهام والأذهان، وترسم نصرها في أشكال الجيل القادم وقناعاته، وأعرافه وتقاليده، وربما هويته التي سيفخر بها أو سيحاول التخلي عنها. أخبرونا يومها بأنها العولمة، أن تجعل العالم يبدو كقرية صغيرة، ذلت ثقافة مشتركة، صدقنا، وحاولنا الولوج إلى هذه القرية، فاكتشفنا أنها متاهة معقدة لا يعرف تفاصيلها إلّا من قام برسمها، ونحن نضيع في داخلها لتعاد برمجتنا بثقافة الرُّسّام لهذه المتاهة، ولا وجود لأي شيء مشترك، وإنما تبعية وانقياد.

الدراما والأخبار والترفيه ثلاثية الإعلام المنتجة والتي تعبد الطريق للسياسة، وتستخدم كمنافذ لإيصال ما تريد إلى أذهان الشعوب لإغراقها بما يعيدها إلى حظيرة القرية المستحدثة تلك، تحت عناوين جميلة، (كأن تكون الحيوان الأليف في حظيرة أو إسطبلٍ أو قنٍّ وضيع) وربما يحالفك الحظ فتكون طائراً مدلّلا في قفصٍ جميل على حائط أحد القصور أو المنازل الفخمة.

 يضيق المجال هنا، لكي نذكر ما يجري في التفصيل، أو نعدد آفات تلك القينة أو محاسنها، ففي كلل جميل قبيح، إذا لم نحسن استخدامه، ولم نتمكن من فهم أسباب وجوده، وكيفية ترويضه والاستفادة منه. لكنه الموت الذي ذكرناه في البداية، نهاية كل شيء، وبداية أشياء جديدة، فلنكن مستعدين لأساليب قتال أكثر قوة وفتكاً، ولنترحم على تلك الشابة التي ربما تغادرنا قريباً، ولنكن مستعدين لمواجهة فاتنة أو ماجنة أخرى، أو مشعوذ جديد، وقد يعود التلفاز نفسه بعد عملية إنعاش ما، ليعيش بيننا، فهلا تأهبنا لنكون أهله، بدلاً من أن يمتلكه الغرباء.

وأخيراً، وببساطة جداً.. إنها حرب فكرية هو ذلك الإعلام بكل سياساته ووسائله.. هذا المقال هو دعوة للوعي واليقظة والسير بسياسات خاصة بنا مفيدة للأمة التي ننتمي إليها في مواجهة كل من يحاربها، ويحاول أن يسيطر عليها، فلا تخفى عليكم ميادين الحروب، وتنشغلوا بجبهات النار التي لا يسقط فيها إلا الدماء، وتتناسون تلك الجبهات العريضة التي سيسقط فيها المستقبل بأكمله ذات يوم، إذا لم نكن هناك، وعلى قدر المواجهة. والسلام عليكم حتى ذلك اليوم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.