شعار قسم مدونات

"غوانتنامو قصتي".. تحقيق في الحادث

blogs سجن غوانتنامو

وبعد عامين فتحت وحدة التحقيقات الجنائية في البحرية الأمريكية تحقيقاً في الحادث. وأكد التحقيق في النهاية رواية قائد السجن، ورفضت وزارة الدفاع "البنتاغون" الكشف عن محتويات التقرير، وعندما حصلت كلية القانون في جامعة ساتون هول في نيوجرسي على التقرير والوثائق المتعلقة بالتحقيق بموجب قانون حرية المعلومات، كان البنتاغون قد أخفى الكثير من محتوياته وشطب باللون الأحمر بعض ما ورد في وثائقه البالغ عددها ألفاً وسبعمئة وثيقة، لدرجة جعلت من محاولة قراءة التقرير أمراً شبه مستحيل.

 

لكن طلاب الكلية بإشراف أساتذتهم فكوا شفرات التقرير، وأصدرت الكلية تقريراً مفصلاً في ديسمبر/ كانون الأول عام 2009 تحت عنوان "موت في كامب دلتا"، وأظهر التقرير ما شاب تحقيق دائرة التحقيقات الجنائية في البحرية الأمريكية حول الحادث من مظاهر القصور، وتَبيَّن أن تحقيق الحرية كان "يطرح أسئلة أكثر من تقديم إجابات". كما أن الطريقة التي أعادت فيها الوحدة تركيب الأحداث لا تصدق؛ فالأسلوب الذي وصف به التحقيق الطريقة التي "قتل فيها المعتقلون أنفسهم" كان غريباً ويعطي صورة أن المعتقلين فكروا في كل صغيرة وكبيرة للانتحار من ناحية صناعة حبل المشنقة من قمصانهم، ومن ناحية حشو خرق في أفواههم حتى وصلت إلى آخر حناجرهم وأغلقت بلعوم كل واحد منهم، ومن ثم صعدوا إلى مغسلة الزنزانة وانزلقوا كي يحكم الحبل خناقه عليهم. وذلك حسب التقرير.

 

طلال الزهراني الذي نُكل بابنه يقول إنَّ ما يهم هو الحقيقة، مؤكداً أن الأمريكيين عذبوا واعتقلوا وقتلوا ياسر ولم يحصلوا على أي معلومات منه أو من الآخرين، ولم يحققوا في النهاية أي شيء

وفي تقرير آخر توصل هاريس (مسؤول المعتقل) إلى أن الحرس انتهكوا معايير الانضباط، ولكنه لم يوصِ باتخاذ أي إجراءات عقابية ضدهم. وبعد الحادث طلبت سلطات الأمن من الجنود الأربعة الذين كانوا مكلفين بحراسة القسم عدم التحدث، بل التغطية على الحادث.

 

وأحد هؤلاء كان الرقيب جوزيف هيكمان الذي تحدث إلى المحرر المشارك في مجلة "هاربر" سكوت هورتون، ونشر مقالاً بناءً على شهادته في المجلة في 18 يناير/ كانون الثاني عام 2010، فقد أكدت رواية هيكمان وجود معسكر تحقيق "غير موجود" يستخدم للتحقيق مع المعتقلين، وهو المعتقل الذي أطلق عليه هيكمان ورفاقه بسخرية "كامب نو"، وذلك لأنه طلب منهم أن يردوا بـ "لا" على أي شخص يسأل إن كان الموقع موجوداً.

 

وتظهر الصور الفضائية المتعلقة بالمعسكر مكاناً يوافق وصف هيكمان، ويقول الأخير إنه ورفيقاً له يُدعى توني ديلفا كانا يتوقفان عند الموقع كلما حانت فرصة لهما، وفي واحدة من المرات سمعوا صياحاً متكرراً منبعثاً من داخله، ما يشير إلى أن شخصاً أو أشخاصاً كانوا يعذبون.

 

ويقدم التقرير الصحفي تفاصيل مهمة عن حركة سيارة من الكامب غير الموجود إلى بقية الأقسام والتحركات المشبوهة في ليلة الحادث، حيث راقب هيكمان من برج المراقبة عمليات نقل معتقلين إلى "كامب نو". وينقل عن والد ياسر الزهراني طلال قوله إن ابنه اختطفته من جماعات في أفغانستان وباعته للأمريكيين، حيث سجن في غوانتانامو وعذب خمسة أعوام، ثم "أعادوه إليَّ في صندوق مقطعاً"، ورفض طلال الذي كان عميداً سابقاً في الشرطة السعودية رواية البنتاغون التي قالت إنَّ ياسر كان عندما اعتقل على الخطوط الأولى من الجبهة، وإنه كان طباخاً لطالبان، معلقاً بأنَّ ابنه الذي كان يحب كرة القدم لم يكن يعرف أن يعمل "ساندويتش". والأدهى من ذلك أن الأطباء الشرعيين الذين شرحوا الجثة قاموا بإزالة أعضاء من جسم الزهراني دون إذن من العائلة لإخفاء معالم الجريمة.

 

طلال الزهراني الذي نُكل بابنه يقول إنَّ ما يهم هو الحقيقة، مؤكداً أن الأمريكيين عذبوا واعتقلوا وقتلوا ياسر ولم يحصلوا على أي معلومات منه أو من الآخرين، ولم يحققوا في النهاية أي شيء. وعليه فإن ملف وفاة الثلاثة في ظروف غامضة لا يزال مفتوحاً، فلم يكن انتحاراً بل كانت الأدلة والشهادات تطرح أسئلة أخرى.

 

إن عمليات الاعتقال التي كانت تتم في أفغانستان بواسطة قوات الجنرال دستم عندما بدأ القصف الجوي الأمريكي، اتخذت صورة عشوائية

في 13 يونيو/ حزيران عام 2011 قدم مركز الحقوق الدستورية في نيويورك استئنافاً لدى محكمة الاستئناف في واشنطن دي سي فيما عُرفت بقضية "الزهراني ضد رامسفيلد". قصة مفزعة وإن كان لشيء أن يبعث على التقزز، فليس هناك ما هو أجدر من ذلك.

 

أعود وأقول إنني على كل حال دخلت عنبر الزنازين رقم 40 لأجد نفسي مع أفغانٍ هُم ضحايا الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في حق الشعب الأفغاني بمساعدة قوات حليفها رشيد دستم.

 

إن عمليات الاعتقال التي كانت تتم في أفغانستان بواسطة قوات الجنرال دستم عندما بدأ القصف الجوي الأمريكي، اتخذت صورة عشوائية، الأمر الذي جعل الآلاف من الأهالي الفارين من القصف الأمريكي، ممن لا علاقة لهم بطالبان أو القاعدة، يقعون في سجن شيبارغان التابع لقوات دستم. أخبروني عن تعرّضهم لظروف مروعة، حيث كانت مباني السجن لا تحميهم من الظروف الجوية القاسية؛ كان الثلج ينهمر عليهم، علاوة على كثافة أعداد السجناء في الزنزانة الواحدة، وقلة الطعام والمياه، حيث لم يكن نصيب كل سجين من الطعام يتجاوز ربع رغيف مع فنجان ماء صغير؛ وكان بين السجناء مصابون إصاباتٍ مريعة كأطراف ممزقة، وجراحات نافذة، ولم يجدوا من يقدم لهم أي علاج، وظلوا يعانون الآلام إلى أن قضى كثير منهم بسبب إصابته.

 

وانتشرت المقابر الجماعية في كثير من المدن الأفغانية لدفن آلاف الجثث، لأُناسٍ لقوا حتفهم جراء القصف الجوي الأمريكي، والقصف المدفعي لقوات دستم، أو المعاناة الشديدة داخل سجن شيبارغان؛ وهو ما أكده وليم هاغلند مسؤول الأمم المتحدة للطب الشرعي، الذي كشف عن مقابر جماعية، واستخرج من إحداها ثلاث جثث قام بتشريحها، وأرجع سبب الوفاة إلى الاختناق؛ وقال: "كان من المستحيل إحصاء عدد الجثث التي احتواها ذلك القبر الجماعي، ولكن الرقم قد يقدر بالآلاف".

 

نقل الأسرى بعد استجوابهم في قندهار وباغرام إلى معتقل أشعة إكس ("دلتا-إكس" فيما بعد) بغوانتانامو لمواصلة التعذيب والإهانة والإذلال المخالف لكلّ القوانين والأعراف الدولية

وأشار كذلك إلى قيام قوات دستم بتسليم أو بالأحرى بيع من قُبض عليهم من الأهالي إلى القوات الأمريكية، والحصول على خمسمئة دولار مقابل كل أسير؛ بعد إقناع الأمريكيين بأن أولئك الأسرى من مقاتلي طالبان أو تنظيم القاعدة، لضمان إتمام الصفقة، ليتم تقييدهم بالسلاسل وإيداعهم في سجن القوات الأمريكية في قندهار، واستجوابهم وهم جاثون على ركبهم والأسلحة موجهة إلى رؤوسهم، مع توجيه اللكمات والركلات إلى أجسادهم.

نقل الأسرى بعد استجوابهم في قندهار وباغرام إلى معتقل أشعة إكس ("دلتا-إكس" فيما بعد) بغوانتانامو لمواصلة التعذيب والإهانة والإذلال المخالف لكلّ القوانين والأعراف الدولية، وخصوصاً اتفاقية جنيف الثالثة لحقوق الأسرى لعام 1949، والتي تجرّم كل ما وقع هناك. بقيت مع السجناء الأفغان في عنبر 40 قرابة أربعة أشهر، من يونيو/ حزيران إلى أكتوبر/ تشرين الأول، وما كنت أبرح تلك الزنزانة إلا للتحقيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.