شعار قسم مدونات

دولة ممكنة لا مستحيلة

blogs - turkey
العقليّة الحركيّة الإسلاميّة المعاصرة تلازم بشكل مضطرد بين الحقّ والحلّ، دون انفكاك بينهما، وكان بدايات هذا الأمر في الشعار الذي رفعه الإمام الشهيد (حسن البنّا) في مواجهة موجة التغريب حيث ظنّ الكثيرون أنّ اتباع الغرب على مبدأ القصّ واللصق هو الحلّ، فقال الإمام الشهيد ردّاً على ذلك: (الإسلام هو الحلّ). لا شكّ أنّنا كمسلمين نعتقد جازمين أنّه لا يصلح لكلّ زمان ومكان إلا أن يكون الإسلام هو هادي الأمّة في حياتها العامّة والخاصّة، وقد قال ربّنا تعالى: (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).

وحتّى هنا لا توجد مشكلة، لو افترضنا أنّ مجموع الإسلاميّين ينطلقون من قراءة واحدة، لمكانة الدين في الحياة العامّة، ولكنّ الواقع ينطق بغير هذا. فالمسلمون اليوم بين محافظٍ ومستغربٍ، وإسلاميٍّ وعلمانيٍّ وقوميّ، وحتّى ضمن البيت الإسلاميّ فهو بين شيعيٍّ وسُنِّيّ، وكلّ مذهبٍ له عشرات المدارس، وكلّ مدرسة تنطلق في ممارستها للإسلام في الحياة العامّة من زاويةٍ مختلفة، إمّا دعوة وإمّا قتالاً وإمّا سياسة، وبالتالي فعندما نقول إنَّ الإسلام هو الحلّ يتبادر للذهن البسيط أنّ الإسلام إن طبِّق كقانون للبلد، أو حكم الاسلاميون فإنَّ مشاكل التحرّر من الاستغلال والاستبداد ستنتهي مباشرة، وأنّ التنمية والقضاء على الفقر والبطالة ستجد طريقها مباشرة لتنتشل حال الناس من قسوة الحياة، وعندما لا يحدث هذا فإنّ الناس سوف تقول: إنّ الإسلام ليس هو الحلّ.

تبقى مسألة إقناع الناس بمشروع الدولة التي يريدها الإسلام منوطاً بهمة الدعاة والولاة الذين يترتب عليهم تقديم مشروع ناضج وممكن ومُقْنِع للناس، بحيث تتوجّه إلى صناديق الانتخاب لانتخابهم، وهم بهذا أيضاً يعطون الصورة المشرقة عن دينهم ومبادئهم.

هذا ليس توقّعاً مفترضاً، هذه حقيقة، عندما يُخفق محام ضعيف في الانتصار لقضيّة عادلة، فإنّ الناس بعقلهم الباطن يقولون: إنّ القضية ليست عادلة.. حتّى نخرج من هذا المأزق الذي ضيّق خناقه الربط المفتعل بين الإسلام وبين الإسلاميّين، وبين التاريخ والواقع. حتّى نخرج من هذا لا بدّ من التفريق بين الحلّ وبين الحقّ. الإسلام هو الحقّ الذي نؤمن به نحن المسلمين، ولكن ليس بالضرورة أن يستطيع المسلمون تنزيل الحلّ لعوامل عدّة منها:

 أولاً: فرقة المسلمين وشتات أمرهم إلى دول ٍوطوائف ومذاهب في غالبيتها متناحرة، ونشأت فيهم ولاءات متعدّدة للعرق أو المذهب أو الإقليم على حساب الهوية الجامعة للأمّة.
ثانياً: ضعف المسلمين العلميّ والتقنيّ والتخلّف الحضاريّ وتابعيتهم العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة لدول احتكاريّة نفعيّة متسلّطة.
ثالثاً: ضمور الاجتهاد السياسيّ، وخوض معركة الهويّة بعيداً عن أدوات العصر المتقدمة في عالم العلاقات والمشاريع، وإهمال معركة الحريّة والتنميّة في العالم الإسلاميّ.

وبناء على هذا يحصل التناقض ضمن الصفّ المسلم بين منطلقاته، من التمسّك بدينه، وبين إكراهات واقعه.. فخذ مثالاً:
 مسألة الخيار الديمقراطيّ: مازال قسم كبير من الإسلاميّين يجهر بتكفير الديمقراطيّة، ويعتبرها ديناً غير دين الإسلام، وأنّه لا يجوز للمسلمين أن يتّخذوا منها طريقاً للوصول للحكم، بغضّ النظر عن أيّ اعتبار آخر، وينطلقون بهذا من موقف الإسلام من حقّ التشريع، وأنّه ليس لأحد أنْ يشرّع من دون الله، لا برلمان ولا قاض ولا حاكم.. وأنّ الديمقراطيّة تنتهي لأن يكون الشعب حاكماً لنفسه، وبالتّالي فهو يصادر حقّ التشريع، ويشرّع من دون الله، وبغضّ النظر عن مناقشة هذا المنطلق، من حيث قربه أو بعده من الحقّ، وسنفترض أنّه صحيح، ولكن هذا الكلام مع كونه حقّاً فهو ليس حلّاً، والإسلام مطلوب منه تقديم الحلول، وليس فقط الفتوى، فما هو الحلّ لأقليّة مسلمة أكثر من مائة مليون مسلم في الهند لا سبيل لهم للدفاع عن حقوقهم إلا تأسيس أحزاب تخوض المعركة الديمقراطيّة، بل ما هو الحلّ للأكثريّة المسلمة في بلادها العربيّة والإسلاميّة سوى الديمقراطيّة وسيلة للوصول إلى بعض حقوقهم في إدارة الدولة؟

فلابدّ من حلول لإزالة الاستعصاء السياسيّ في هذه المسألة، وليس من هذه الحلول أن نقول نحن المسلمين: عندنا نظام للشورى، والخلافة، ويجب العودة لنظامنا، وعندما نسأل عن طرق تطبيق ذلك سيكون الكلام عاماً عن نظريّة أهل الحلّ والعقد وما شابهه، ومعلوم للجميع أنّ العصر تغيّر وليس بإمكان المسلمين اليوم أن يتفرّدوا بإدارة بلدانهم بمفردهم، دون تعاقد سياسيّ يكفل التساوي بين جميع المواطنين المقيمين في هذه الدولة، بغضّ النظر عن الدِّين أو العرق أو الجنس.

وبهذا لا نكون قد خرجنا عن قواعد الشرع، بل عملنا من خلال قواعده، بما يسمح لنا بتحصيل حقوقنا في بلادنا على الأقلّ، وتبقى مسألة إقناع الناس بمشروع الدولة التي يريدها الإسلام منوطاً بهمة الدعاة والولاة الذين يترتب عليهم تقديم مشروع ناضج وممكن ومُقْنِع للناس، بحيث تتوجّه إلى صناديق الانتخاب لانتخابهم، وهم بهذا أيضاً يعطون الصورة المشرقة عن دينهم ومبادئهم، كما أعطى التاجر المسلم الصورة الصادقة عن الدِّين في جنوب شرق آسيا، فدخل النّاس في دين الله أفواجاً، لما رأوا من صدقه وأمانته قبل أن يحدّثهم عن عقيدته ودينه.

فالتفريق بين الحقّ والحلّ: كوننا نعتقد أنّ الحقّ في المضمار السياسيّ هو (دولة يريدها الإسلام)، وهي الدولة التي تكون فيها الشريعة الاسلاميّة حاكمة للدستور، وناظمة للمجتمع، بدون اشتراك غير المسلمين في منصب سياديّ، وهذه الدولة هي التي وصفها (وائل حلاق) في كتابه بأنّها (الدولة المستحيلة)، أي التي لا يمكن أن تنسجم مع واقع الحداثة، لأنّ أسّ الحداثة أنّ مرجعيّة الإنسان لها الحقّ في التوسّع حتّى على حساب المرجعيّة الإلهيّة.

فلا ضير أن نبحث عن الحلّ بدولة يقبل بها الإسلام، ويتعايش المسلم معها بدون المساس بدينه، وهي الدولة التي تكون المرجعيّة فيها المشترك الإنسانيّ: من قيم الحريّة والعدالة والكرامة والشورى.

نقول: إنّ هذه الدولة (المستحيلة) ليست مستحيلة في كلّ زمن، بل هي مجرّبة ومطبّقة في زمنٍ يسع ظروفها، كالزمن الذي كان فيه الناس على دين ملوكهم، والحدود عند أقدام جنودهم، وكان تركيب الأمم على أساس الراعي والرعيّة، و هذا العصر انتهى منذ معاهدة (وستفاليا) التي تكلّم عنها (كيسنجر) في كتابه: (النظام الجديد) وهو احترام الدولة القوميّة، وعدم التدخّل بشؤونها الداخليّة، وتساوي مواطنيها أمام القانون بدون الاعتبارات الأخرى: من دين أو لون أو جنس، مع وجود تباينات بين دولة وأخرى.

ولكنّ الحقّ الذي نراه متعذّراً بدولة يريدها الإسلام، فلا ضير أن نبحث عن الحلّ بدولة يقبل بها الإسلام، ويتعايش المسلم معها بدون المساس بدينه، وهي الدولة التي تكون المرجعيّة فيها المشترك الإنسانيّ: من قيم الحريّة والعدالة والكرامة والشورى.. وهذه الدولة إسلاميّة من حيث القبول بالإمكان، ولو لم تكن من حيث الإرادة والتأصيل، لأنّ قيم المشترك الإنساني بالأساس هي قيم إسلاميّة نزلت بها الرسالات السماويّة من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.

وحسبنا من هذه الدولة ألا تصادم الشريعة، وأن تحايد بين الأديان، وتوازن بين هويّات المجتمع، وتسمح للحال الثقافيّة والأخلاقيّة في الدولة بالتعبير عن نفسها في الدائرة السياسيّة، فهذه دولة مقبولة من قبل المسلمين، وليست مستحيلة، بل ممكن أن نعيشها في واقع الحداثة المعاصر، وتفتح مجال الدعوة للإسلام، بل هي فرصة لتعريف الناس بمنهج الأمّة ودينها، والتدليل على صلاحيّته لكلّ زمان ومكان، وقريب من هذا قول (أبي علي الجبائي) شيخ المعتزلة (ت 303. هجري) عندما سئل عن دار الإسلام فقال: دولة الإسلام حيث أصلّي وأقول رأيي غير خائف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.