شعار قسم مدونات

هل سفينة نوح كانت مثقوبة؟

blogs - سفينة قديمة
الحياة تضطرب وتتلاطم في غير هدأة، مذاهب يذهب بعضها ببعض، أفكار وفلسفات ظلّت تعصف وتبرق وترعد حتى فتحت بابها بماء منهمر، ظنّ الإنسان القاصر أن ذلك الماء من خيرات أفكاره ونظرياته، وظل منتشيًا فرحًا، إلى أن فار التنور، ورأى الماء يفيض من تحت قدميه ومن فوقه وطغى الطوفان، حينها رأى الماءٓ رمزًا للموت بعد أن كان رمزًا للحياة، رَآه كيف يهلك الحرث والنسل، ويبدد السعادة ويورث الشقاء.
مشهد الغرقى المخيف لا يفارق عين البشرية التي أعلنت أزمتها، ودعت بالثبور على الفيلسوف المنظِّر، الذي وهبها فكرة بدأت كحياة وانتهت كموت. سارعت البشرية بدعوة عقولها؛ لابتكار فلسفة جديدة تخرجها من أزمتها وتكون أكثر أمنًا من سابقتها، فتسارع الفلاسفة ملبين النداء، واستبقوا الأقلام، وحبكوا الأفكار، وصاغوا التصورات الجديدة، ثم أعلنوها بكل ثقة "شقاء الإنسانية انتهى".

ثم قام أرباب الأفكار بدعاية كبرى لتصوراتهم الجديدة، وتلقفتها العقول في شتى البلدان على أنها خاتمة الأفكار، والمنقذة من رداءة الحال، وفعلًا انحسر الطوفان الذي آذى الإنسان، وتبخر شيئًا فشيئًا، وعاد ثغاء الأَنْعَام. ولكن عقول من صاغوا تلك التصورات غاب عنهم أن الماء الذي تبخر، ارتفع إلى السماء ليعود مطرًا في يومٍ ما، وهذا ما كان! فما لبثت البشرية في فكرتها الجديدة إلا والغيوم فوق رأسها تتراكم، ثم رعدة أقوى من سابقتها تبشر بطوفان أعتى من الأول!

منذ ذلك التاريخ السحيق إلى يومنا الحاضر، ما زال الصراع بين أبناء ركاب السفينة، بين الطائفة الموعودة بالعذاب الأليم والطائفة الموعودة بالسلام والبركات.

كان جديرًا بالإنسان أن يعرف أنه عاجز على أن يقدم تصورًا نظيفًا من تلقاء عقله يضمن للبشرية سعادتها، كان جديرًا به أن يعرف قصوره البشري. عاد الطوفان واعتلّت الحياة وغرقت في فكر إنسانها!
وفِي وسط تلك اللُجج لاحت سفينة إنقاذ، كانت يومًا ما مثارًا للسخرية وعنوانًا للسذاجة وبدائية الإدراك، هاهي أقبلت تمخر الطوفان وتشق العباب، عليها رجل يقول: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ).

يدعوهم دعوةً ليست من وحي فكره ولا من تلقاء نفسه، إنما هي دعوةٌ من الله نظيفة، تدعو الإنسان إلى التزام التصور القويم لهذه الحياة، وأن يتخلى عن ادعاءات عقله التي آذت الكون وليست البشرية فحسب. إلا أن مِمَّن جاءتهم الدعوة السماوية، طائفةٌ سادرةٌ شهدت حال الغرقى بعينها، وبلّ الماء أسمالها، استولى عليها الغرور والعناد، وتجاهلت النداء، وآوت إلى فلسفة أرضية تعصمها من الماء بزعمها.

وهكذا هو الإنسان السادر، يظل مقتنعًا بأفضلية ماهو أرضي على ما هو سماوي، حتى يحول الموج بينه وبين دعوة الحق فيكون من المغرقين. أما الطائفة التي استجابت لتلك الدعوة، وتمسكت بحبالها واستوت على ظهر السفينة السليمة، متبعةً ربانها الذي ما زاغت عينه عن السماء يسترشد بها، أما تلك الطائفة فشأنهم: (اهبِط بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيكَ) ليس فقط عليك، بل (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ)، على الذين يحافظون على نصاعة التصوُّر، حتى وإن كانوا من أصلاب أصلاب من هم معك، أما إن خرج من أصلابهم أناس يبدلون دعوة الحق ويلوثونها بأفكارهم فشأنهم: (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُم ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنّا عَذابٌ أَليمٌ).

ومنذ ذلك التاريخ السحيق إلى يومنا الحاضر، ما زال الصراع بين أبناء ركاب السفينة، بين الطائفة الموعودة بالعذاب الأليم والطائفة الموعودة بالسلام والبركات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.