شعار قسم مدونات

نزل القرآنُ فأحيا الإنسانَ وبنى الحضارةَ (2)

blogs - Quran
لقد نجح القرآن في أن يبعث حضارةَ أُمة ما عُرف لها حضور لافتٌ خارج حدودها في الجزيرة العربية، فإذا بها تُشرِق إبداعًا علميا وتغييرا اجْتماعيا وإنسانيّةً عاليةً في كلّ العالم.. علّمَ القرآنُ العربَ والمسلمين أن ينظروا فنظروا، ودعاهم إلى السَّير في الأرض فساروا… حبّب إلى نفوسهم التّعقّلَ والتفكّرَ والاعتبارَ، والمبادرةَ إلى الفعل، والالتزامَ بالعقود، والسّيرَ في الأرض، والانكبابَ على العلم، والاستفادة من تجارب الأمم… وأعطى حياتَهم معنى جديدًا، وأسّس لهم مشروعًا ومُهمّة عظيمة في الأرض، محذّرا إيّاهم من الفرقة، ومنفّرا لهم من الاستبداد (العلوّ) والفساد:
"وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104)…
"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110)…
– "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103)…
"وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال: 46)…
"تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (القصص: 83)…

تخرّج العرب من مدرسة القرآن فأبدعوا في وقت قياسيّ تجربةً حضارية متميّزة يُصوّر "توماس جولدشتاين" بعضَ ملامحها فيقول: "كان العنصرُ الأكثر حيويَّةً في تطوّر العلم الإسلامي هو هذا الطّابعُ الكوني للثقافة التي أرساها العرب، وأثبتُوا أنهم أساتذةٌ في نسْج كلِّ الخيوط الثقافية المختلفة في نسيج ثقافي جديد، وتماسكت الحضارة الجديدة بواسطة لغتهم المشتركة وإيمانهم المشترك، وطريقة حياتهم المشتركة…" (توماس جولدتشتاين: المقدمات التاريخية للعلم الحديث: 112)

نجح القرآن في أن يهب المجتمعاتِ المسلمةَ ذائقةً فنّية عَزَّ نظيرُها، ففي مدرسته تعلّم المسلمون كلّ المسلمين معنى "التّغنّي" و"التّفنّن" في الأداء، وفيها تعوّد الجميع تذوّق الصّوت الجميل وهو يتلو الآيات البيّنات فيخشع الكون ويُنصت كلّ الوجود.

أمّا غوستاف لوبون فيُصوّر هذا التميّز الحضاري وينوّه بجليل إنجازاته فيقول: "لم تَعرف القرونُ الوسطى العصورَ الكلاسيكية القديمةَ إلاّ من خلال العرب، وعلى مدى خمسمائة سنة، لم تقُم جامعات الغرب إلا على كتبهم. وكان العرب همُ الذين أدخلوا أوروبا زمنَ الحضارة: بمستوياتها الثلاثة: المادية والفكرية والأخلاقية. وإذا درسنا أعمالَهم العلميةَ واكتشافاتِهم، فإنّنا نُدرك أنّ أيًّا من الشّعوب لم يقدر على تحقيق هذا القدر من الإنجازات في مثل هذا الحيّز الزمنيّ القصير. وإذا تفحَّصنا فنونَهم، فإنّنا نعترف لهمْ بأصالةٍ لم يتجاوزهم فيها أحدٌ" (حضارة العرب).

لقد نجح القرآن في أن يصنع عقلا عربيًّا شغوفا بالمعرفة متطلّعا إلى أسرار الكون وسننه، حتّى أضحى العربُ أساتذةً في هذا المعنى، ولقد "كان مما تعلّمته العصور الوسطى من الإسلام هو هذا الابتهاج بتنوّع تفاصيل الطبيعة واستخداماتها من أجل المجتمع. وبتأثير هذا الالتقاء اتخذ الغرب الخطوة نحو غرس العلوم المتخصصة انطلاقا من اللبّ الفلسفي الأصلي. وكلّ علم متخصّص على حِدَة في الغرب يَدين بأصوله إلى الدّافع الإسلامي، أو على الأقل باتجاهه منذ ذلك الوقت فصاعدا…" (المقدّمات التاريخية للعلم الحديث: 116)

وكيف لا يُضحي الشّغف بتنوّع تفاصيل الطبيعة من عاداتهم وآيات "النّظر" في كلّ شيء في الكون بالعشرات في قرآنهم، فضلا عن آيات التعقّل والتفكّر والاعتبار فهي بالمئات:
– "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ" (الأنعام: 99)…
"قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (يونس: 101)…
"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" (العنكبوت: 20)…
"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ" (ق: 6)…
"فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ" (عبس: 24)…
"فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ" (الطارق: 5)…
"أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ" (الغاشية: 17، 18)…

وعلى ضفاف القرآن وُلد عقل تشريعي لم يشهد تاريخُ البشرية مثلَه إلا قليلا، وعلى ضفافه بُنيت صروحٌ من التشريعات والقواعد والأصول والمقاصد… وإنّ «دارس التاريخ الإسلامي يعلمُ تمامَ العلم أنّ ما يقرب من نصف انتصارات الإسلام بوصفه قوّة اجتماعية وسياسية إنّما كان الفضل فيه لما تحلّى به هؤلاء الفقهاء من عُمق ودقّة في التّشريع»، وهي التي أشاد بها "فون كريمر" في قوله: "فيما عدا الرّومان، لا تستطيع أُمّةٌ غير العرب أن تصف نظامَها التشريعي بأنه وُضع في دقّة وعنايةٍ". (إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام: 172)

وفي هذا الإبداع التشريعي يقول الألماني "شاخت": "كان من بين أهمّ الأمور التي تركها الإسلام للعالَم المتحضِّر، قانونُه الدّينِيّ الذي يُسمَّى "الشريعة". فهو يَختلف بشكل واضح عن جميع الأشكال الأخرى للتّشريع، إنه تشريع فريد من نوعه… وعلى الرَّغم من أن التَّشريع الإسلامي هو تشريعٌ دينِي من حيث جوهرُه، فإنه لا يُعارض العقل بأي شكل من الأشكال".

ذلك تاريخ القرآن بيننا، وتلك أفعاله فينا، وضعَنَا في قلب العالم نتربّع على عرشه قرونًا طويلة، وأدخلَنا التّاريخَ باعتبارنا إحدى أكبر الحضارات إنجازاتٍ فيه، وكانت وستظلّ هي نفسها "مشروعًا" أساسيًّا لفهم الحياة، وإحدى أهمّ رُؤى العالم وأكثرها قدرةً.

وقد نجح القرآن في أن يهب المجتمعاتِ المسلمةَ ذائقةً فنّية عَزَّ نظيرُها، ففي مدرسته تعلّم المسلمون كلّ المسلمين معنى "التّغنّي" و"التّفنّن" في الأداء، وفيها تعوّد الجميع تذوّق الصّوت الجميل وهو يتلو الآيات البيّنات فيخشع الكون ويُنصت كلّ الوجود… وهو الذي حفظ المقامات الموسيقية للأمّة مشرِقَ الأرض ومغربَها… وحوله أبدعت يدُ البراعة لوحاتٍ رائعةً تزيّن صدرَ مجالسنا ومساجدنا، وفي أحضانه وُلدت مدارس للخطّ العربي ممّا لا تجد له نظيرا في حضارة أخرى، وبسببه حقّق العرب والمسلمون "أصالةً فنّيةً لم يتجاوزهم فيها أحدٌ" (حضارة العرب).

ونجح القرآن في أن يوحّد اللّسان الرّسميّ للأمّة مع احترامه لكلّ الألسنة، ويحفظَ العربيةَ لغةً هي إحدى أكثر اللغات انتشارا وفعالية بحكم الواقع الدّيني على الأقل، وانظر ملايينَ الحفّاظ من كلّ الأعراق وهم يتنافسون في التّغنّي بالقرآن العربيّ المبين تُدركْ ما أقول… لقد جعل القرآنُ من العربيّة إحدى أقدم اللغات المستمرّة في فعاليتها وتوحيدها للمخزون الثقافي العربي واستدامة حضوره وتحقيق التّواصل بين الأجيال من يوم أنشد امرئ القيس معلّقته، وحتّى لحظتنا الرّاهنة، وأظنّ أنّ الأمر سيستمرّ طويلا مادام القرآن بقوّته المعنوية والفكريّة حاضرا فينا، راعيًا لخطابنا وحارسا لفعالية لغتنا وضمينا…

إنجازات في كلّ المجالات: إنسانيّها ونفسيّها واجتماعيّها وفنّيّها ومعماريّها وعلميّها… ونجاحات لا تعرف حدًّا ولا يُنكرها إلاّ جاحد أو جاهل… ذلك تاريخ القرآن بيننا، وتلك أفعاله فينا، وضعَنَا في قلب العالم نتربّع على عرشه قرونًا طويلة، وأدخلَنا التّاريخَ باعتبارنا إحدى أكبر الحضارات إنجازاتٍ فيه، وكانت وستظلّ هي نفسها "مشروعًا" أساسيًّا لفهم الحياة، وإحدى أهمّ رُؤى العالم وأكثرها قدرةً –حتّى في عصرنا الحاليّ، ورغم ما بالمسلمين من تخلّف- على استقطاب القلوب والعقول بما نجحت في تحقيقه من التّناغم والأنس بين العقل الصريح والنقل الصحيح والروح الآمنة المطمئنّة…

وإذا كنّا قد تخلّفنا بعد تقدّم، أو تشرذَمنا بعد وَحدة، أو هُنّا على الزّمان وفي أعين خصومنا بعد عزّة، فلأنّنا غيّرنا ما بأنفسنا وأعرضنا عن أسباب مجدنا، ونسِينا مشروعَنا ورسالتنا، فحقّ علينا ذلك "القانون القرآنيّ": "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: 11)… وبنفس القانون يُمكن أن نستعيد ما فرّطنا فيه من الفعالية الحضارية… أمّا اليأس والأحزان والانفعال السلبيّ فليست مما يُمهّد للأمجاد في شيء…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.