شعار قسم مدونات

ما قالته ذات الخمارِ الأسودِ

blogs - امرأة حجاب
هناك نشوة مريرة تتوق لها القلوب، وتفنى في سبيلها الأعمار، وتتهتك معها أربطة الأرواح. نشوة العشق المريرة، تلك السعادة المغموسة بالشجن؛ التي قد تُذهب بلُب الواحد منا، وتجعله يبيع دينه ودنياه في سبيل لحظة قرب صافية من محبوبه. صفحات الأدب العربي ملأى بعشاق تفتت أرواحهم في سبيل لحظة وصل وود صافية؛ فمنهم من ظفر بها، ومنهم من فني في سبيلها.

هام قيس في ليلاه، وكتب فيها أجود ما جادت به العربية من شعر؛ حتى صارت العامرية من فرط ما قيل فيها رمزًا للمحبوبة في الشعر العربي. وذاب عنترة بعبلته، وهام جميل ببثيناه؛ فكل يئن على شوقه، وكل يحن لعذابه!

الشعر العربي زاخر بأساطير العشق، منها ما هو حقيقة، ومنها ما هو نسج خيال. هناك قصة من أجمل القصص التي رويت شعرًا وعاشت معنا طويلاً -رغم قصر أبياتها- لدرجة أننا تمنينا لو كانت حقيقة. تلك الأسطورة الشعرية أروع أبيات الغزل التي صيغت في العصر الأموي، مما جادت به قريحة الشاعر الزاهد المتعبدِ: ربيعة بن عامر الدرامي، والمُلقب بالمسكين.

من منا لم يعش مع تلك الأبيات طويلاً:
قل للمليحة في الخمار الأسود  ** ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه   ** حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه  ** لا تقتليه بحق دين محمدِ

أقلع المسكين عن الإبحار في بحور الشعر العربي منذ ذلك اليوم، وظل شراع تلك الأبيات مرفوعًا إلى يومنا هذا. نسينا أو تناسينا رمزية القصة، وعاشت في دواخلنا أسطورة العابد الذي فتنته ذات الخمارِ الأسود.

حتى بعدما صرنا نعلم القصة الحقيقة وراء كتابة تلك الأبيات؛ نظل مُحلقين في سماواتها التي ما زادت عن ثلاث سماوات. تُرى من تكون تلك المليحة التي جردت الزاهد من زهده، وخلعت عن الراهب ثوب الرُهبان؟ رغم علمنا بخبر تلك الأبيات وأنها قيلت كدعاية للخُمر السوداء التي كانت لا تلقى رواجًا لدى نساء المدينة؛ إلا أننا وحتى يومنا هذا مازلنا محدقين بتلك الرواية الخيالية، ولم تغب عن تصورنا تلك "المليحة".

ماذا لو كانت القصة حقيقة؟ وماذا لو كانت تلك "المليحة" على نفس الدرجة من الشاعرية والبلاغة؟ تُرى ما قد يكون ردها؟ ربما كانت لتقول:
قُل للناسك المتعبدِ
من بعد زهدك ما لي غير الأسودِ
ما إن رأيتك للصلاة مشمرًا
حتى هرعت صوب المسجدِ
ما جئت أرجو فتنتك
لكن جوارًا في رحاب المسجدِ

أقلع المسكين عن الإبحار في بحور الشعر العربي منذ ذلك اليوم، وظل شراع تلك الأبيات مرفوعًا إلى يومنا هذا. نسينا أو تناسينا رمزية القصة، وعاشت في دواخلنا أسطورة العابد الذي فتنته ذات الخمارِ الأسود. ولما طال الحديث عن تلك المليحة؛ حُق لها أن تخرج عن صمتها، وتخبرنا أنها لم تك ترجو للناسك فتنة، لكنها مثله جاءت لتتعبد. إن كان لتلك القصة أن تكتمل فلتكتمل بخالدية كما بدأت، ولا سرمدية لهذان العاشقان سوى أن يجمعهما الزهد؛ فيفرقهما الموت، ليجمعهما في رحاب الجنان من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.