شعار قسم مدونات

طقوس انتحار كاهن المعبد

blogs - محمود عباس
باتت الصفقة بين حماس ودحلان من واضحات الأمور، وهو ما يشير إلى مرحلة جديدة ستعيشها غزة وفق نظام سياسي وإداري جديد، يكون فيه خصم الأمس شريكاً في صناعة واقعها. وليس هنا المقام لتقييم الاتفاق أو شخصية محمد دحلان نفسه، الذي مهما كانت مبررات شراكته في إدارة قطاع غزة فلن يلغي ذلك شيئاً من تاريخه وحاضره الملوث. كما أن السياسية وأقدارها، الجغرافية خاصة، دوماً تتدخل لتقول أن واقعاً آخر موجود أيضاً بدرجة اليقين ذاتها التي تعتبر محمد دحلان رجلاً مشبوهاً أمنياً وسياسياً ومالياً.

المرحلة وتداعياتها تحمل الكثير من الذي قد يُقال في شخص قد لا يقل شبهةً عن دحلان، لكنه يقف خاسراً كبيراً أمام دهاء الأخير. فمحمود عباس الذي تولى زمام السلطة منذ 12 عاماً، يعجز اليوم أن يقدم نفسه كرئيس لأكثر من معبد المقاطعة والمتنفعين من الصلاة هناك. فشل الرجل في أن يحافظ على الحد الأدنى من تركة عرفات، الذي بكل ما قيل ويقال فيه بقي شخصية تفرض ظلالها على شرائح فلسطينية واسعة تفوق حركة فتح، التنظيم المسكين جداً في عهد الكاهن الخليفة.

فقد فشل محمود عباس أن يحتفظ بنفسه كرئيس لكل تنظيمه فضلاً عن كونه رئيساً لكل الشعب الفلسطيني. ونجح دحلان في انتزاع مساحات حيوية وشاسعة من التنظيم الحاكم. فمعركة فتح غزة حُسمت لصالح دحلان، وفتح لبنان لحقت بها، وصولة أبي فادي الحالية هي في ساحات فتح في أوروبا التي تبدو مستعدة جداً للقفز من مركب الكاهن الغارق.

حشد دحلان خلفه الرباعية العربية، والاحتلال بطبيعة الحال، وبقي الكاهن ينتظر تمتمات غير مفهومة من ترمب حول إمكانية تحقيق حل دائم للقضية الفلسطينية.

تتعجب كل العجب في ردة الفعل المزاجية والنزعة الشخصانية التي لا تمت للسياسة بصلة في سلوك محمود عباس. يقوم باستثناء مخيمات لبنان من اللجنة المركزية في سابقة تاريخية بمؤتمر فتح الأخير كي يرد على دحلان، وفي الحقيقة كانت هذه الحركة غبيةً بالقدر الذي حسمت معركة النفوذ هناك لصالح دحلان وجماعته. أما معركة الكاهن في غزة فهي حبلى بالسلوك الغرائزي لسدنة المعبد.

لاتكاد تجد قراراً عقلانياً واحداً صدر من المقاطعة من شأنه دعم صمود أنصار المقاطعة في وجه مال دحلان السخي ودهائه الذي يأتي من خلفيات المراتع الأمنية التي نشأ فيها. فسقطت فتح غزة بالكلية تقريباً لصالح دحلان بلا حرب حقيقية، كما كل ساحات النفوذ التي خرجت عن سرب عجائز رام الله. وإذا كانت معارك النفوذ قبل دخول دحلان لقطاع غزة هذا مصيرها، فإنها ستكون كانفراط حبات العقد بعد أن يعود "المخلص" إلى قاعدته في غزة.

الاتفاق قد يكون المحطة ما قبل الأخيرة في معركة الاستيلاء على كل فتح، وبالتالي على السلطة المغصوبة أصلاً من قبل التنظيم. اتفاق يعيد دحلان إلى أقوى قواعد فتح داخل الأراضي الفلسطينية في غزة. وبدل أن يكون التفكير المنطقي لعباس أن يذهب إلى مصالحة فاعلة مع حماس في القطاع لقطع الطريق على طموح دحلان بالرئاسة، يعيش الرجل تحت تأثير ابتسامة ترمب الزائفة، فيصعّد خطواته ضد قطاع غزة بالوتيرة والنمط ذاته الذي خسر فيه فتح في لبنان وغزة وأجزاء من أوروبا.

راهن الرجل "الخطير" على قناعة حماس بأفضلية التعامل معه على التعامل مع دحلان، وهذا حقيقة، ونسي أن الاعتماد المطلق على خيارات خصمه بدون سلوك يقارب الرهان من زواياه السياسية والوطنية هو عبث. فشل أبو مازن في القيادة وفشل في حسابات أن الجغرافيا السياسية والتحالفات الإقليمية وتقاطعات مصالحها هي مصدر واقعي للشرعية أكثر مما يقدمه المعبد.

لاتكاد تجد قراراً عقلانياً واحداً صدر من المقاطعة من شأنه دعم صمود أنصار المقاطعة في وجه مال دحلان السخي، ودهائه الذي يأتي من خلفيات المراتع الأمنية التي نشأ فيها.

حشد دحلان خلفه الرباعية العربية، والاحتلال بطبيعة الحال، وبقي الكاهن ينتظر تمتمات غير مفهومة من ترمب حول إمكانية تحقيق حل دائم للقضية الفلسطينية، تمتمات تشبه في طلاسمها سلوك العرافين رأس مريض ليقنعنا أنه سيشفى بفعل القدرة الروحية الخفية. إنها السياسة يا سادة، تحكمها عوامل وظروف الوحدات الفاعلة في المنطقة لا الإيمان العتيق بعصا الكاهن.

مع دخول دحلان إلى قطاع غزة، فإن حقبة كاملة ستكون قد بدأت، سيكتوي بنارها الكثيرون، وسيبدأ سدنة المعبد تجهيز مراسم الدفن والاستبدال، بعد أن فشل الكاهن في إقناع المؤمنين به، فضلاً عن الكافرين به وبنهجه، أن عصاه وإيمانه العميق لهما قدرة تفوق قدرة المال ووقائع السياسة وقوانينها.

بعد ذلك يصبح خط الرجعة مفقوداً فيه الأمل، وتصبح رحلة دحلان وجماعته عبارة عن تيكت باتجاه واحد (One Way)، فقط بانتظار أن يَخِرّ الكاهن، وقد لاينتظر الرجل المخلص (العجول بطبعه) دابة الأرض لتأكل منسأته كي تدلهم على أنه قد خرّ منذ زمن طويل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.