شعار قسم مدونات

انتفاضة الريف.. مات البام.. عاش التجمع

blogs - حراك المغرب ومطالبة الشعب بالإفراج عن المعتقلين
ينشغل الرأي العام الوطني هذه الأيام بالتطورات التي تعرفها مدينة الحسيمة،  وهناك تضارب في التوقعات، بين من يراهن على التصعيد، ومن يؤمن بأن "الدولة" ستفرض إرادتها في النهاية،  بعيدا عن الرجم بالغيب، فالرد "السياسي" المتوقع على حراك الريف، سيتمثل -في المدى المتوسط والبعيد- في تسليم المدينة والجهة لحزب التجمع الوطني للأحرار، بعد فشل الرهان على حزب الأصالة والمعاصرة، 
قد يبدو هذا السيناريو غريبا، لكن "منطق السياسة" في المغرب لا يمكنه أن يخرج عن هذا الاتجاه، والأدلة على ذلك كثيرة، والمؤشرات أكثر.

– تسخير المواقع الإلكترونية المعلومة، وما تبقى من صحف ورقية ملونة لشيطنة الحراك، وتسويق صورة المدينة الهادئة بدل المدينة الميتة، والحياة الطبيعية بدل الحياة المتحركة، مع التعتيم التام على ما يجري في الريف، مع أن هذه "التقنيات" أثبت فشلها مرار وتكرارا في مواجهة حزب العدالة والتنمية،
إنها عقلية توقفت في ثمانينيات القرن الماضي وغاب أنها أنه صار بإمكان حراك الحسيمة توجيه كلمة مباشرة لـ"الشعب" عبر مواقع التواصل الاجتماعي ليبلغ عدد متابعيها مئات آلاف المشاهدين، وهي أرقام لا يستطيع أن يحققها أي وزير أو زعيم حزبي أو نقابي. 

– تحرك الوفود الوزارية بطريقة استعراضية مصحوبة بالكاميرات للتواصل مع "المواطنين"، مع رشة جرأة زائدة ، لكن في حدود المسموح به طبعا، في مشاهد تذكرنا بسوابق، أصبحت مدعاة للضحك، بما أن الفيسبوك تحديدا صار أداة لهدم- في دقائق معدودة- ما تبنيه السلطة في ساعات وربما أيام. 

– اجتماعات مارطونية تعطى فيها الكلمة لضيوف يتم اختيارهم بالفرازة، لممارسة المعارضة، مقابل سيل من الوعود، والوعود، والوعود، التي لم يعد يصدقها أحد، بل أصبحت تثير السخرية وتتحول إلى مادة للتنكيت والكوميديا الزرقاء (نسبة للفيسبوك). 

السلفية البطالية هي الخطر الذي يهدد المغرب أكثر من كل شيء آخر، ولا شيء يساعد على توفير عوامل الانفجار أكثر من الفساد الذي عم البر والبحر وحتى الجبل.. أية رسالة يمكن أن يفهمها الرأي العام حين تتم مكافأة شخص متهرب من أداء مليار سنتيم للضرائب بحقيبة وزارية؟

الوجه الرئيسي للمشكلة إذن، يتمثل في الانقطاع التام بين "الدولة" عندنا -بمفهومها في القرون الوسطى طبعا- وبين الواقع وما يجري على الأرض. 
إن التدخل لضبط الصغيرة والكبيرة، وقتل السياسة وتجريف حقلها، لم يؤد كما كان متوقعا إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى ترك السياسة للسياسيين المحترفين (بمعنى المأجورين) أو المنحرفين، بل إن المجتمع عمد إلى خلق وسائط جديدة للتعبير السياسي، منفلتة من كل ضبط أو تحكم، وخارجة عن كل سيطرة، لا تعرف سقفا لمطالبها، ولا تراعي "الأعراف المرعية" و"الأدبيات المخزنية". 

وعلى عكس ما يتوقع البعض من أن الوضع سيعود إلى سابق عهده بعد اقتحام عقبة الريف، من خلال تسريع مشاريع أو توفير مناصب شغل، أو تنفيذ اعتقالات وتدشين متابعات ومحاكمات، فالأكيد أن هذه التعبيرات "المنفلتة" ستتقوى أكثر، وقد تتسع رقعتها، بتوالي اكتشاف ضعف "الدولة" وعجزها عن البطش والتنكيل، بمستويات سنوات الرصاص.

فاليوم محاكمة شاب -نكرة- من شباب الفيسبوك أصبحت تحرج المغرب في المنتظمات الدولية، فما بالك حين يتعلق الأمر بقادة حراك سلمي له خلفيات اقتصادية واجتماعية وسياسية؟ وربما له أشباه ونظائر في كثير من دول الاتحاد الأوروبي. 

الخطير في الأمر ليس هو سوء التقدير، بل هو في اعتقاد البعض في قدرة "الدولة" المطلقة على لجم حركة المجتمع أو التحكم فيها بأساليب الترغيب والترهيب القديمة، لكن النتيجة النهائية ستكون فقط إظهار مزيد من ضعفها وعجزها في زمن لم تعد فيه زوايا مظلمة يمكن أن تمارس فيها "الخروج عن القانون" و"انتهاك حقوق الإنسان" دون أن يراك أحد. 

العقلية القديمة هي التي ستقود المغرب نحو الهاوية:
– حملة إعلامية رسمية يعلم الله كم كلفت "الصناديق السوداء"، نسفتها في خمس دقائق كلمات والدة الزفزافي لأنها ببساطتها وتلقائيتها أكدت أنها أم، ككل الأمهات المغربيات.

– "تسريب" صور الزفزافي في أوضاع "غير لائقة"، كان بمثابة شهادة له بأنه مثل كثير من شباب هذا البلد، ضحية للخيارات السياسية غير المدروسة، والأنكى من ذلك أن رد فعل شعب الفيسبوك كان صادما وبنفس السلاح، أي نشر "صور" والتعليق عليها بتعاليق جارحة. 

قبل سنوات طويلة أكدت أن هناك جهات في محيط صناعة القرار تعادي الديمقراطية وتحاربها جهارا نهارا، وهناك جهات في الطبقة السياسية و"النخبة" الفكرية تدرك أنه لا مكان لها في ظل ديمقراطية حقيقية، وحذرت من مخاطر زواج كاثوليكي بين الطرفين.

– السؤال الرئيسي الذي لا يريد أحد التوقف عنده هو: لماذا لا يتمدد الزفزافي ومن معه لملء الفراغ و"الدولة" قد مهدت لهم الطريق؟
أكرر: مات البام، عاش التجمع، هكذا تفكر "الدولة" محليا ووطنيا، والأيام بيننا. 
لا أريد أن أجتر هنا التحليلات ولا النصائح التي تم تداولها مؤخرا من طرف كثير من عقلاء البلد، ممن ينظرون إلى الصورة كاملة، بكل أبعادها، ولا ينظرون فقط إلى ما فوق أنوفهم. 
فالأكيد أن حفلة الجنون التي انطلقت لا يمكن أن تتوقف بسبب نصيحة صادقة أو تحليل علمي، لكن أراهن أن يكون هناك بقية عقل في "الدولة"، تستحضر قاعدة: لا تقاتل من ليس عنده ما يخسره.
 
كيف ستمر محاكمات نشطاء الحراك؟ إضرابات عن الطعام، واحتجاجات في الداخل والخارج، وتقارير حقوقية سوداء، وأبواب كثيرة مشرعة على المجهول، هل يتحمل الوضع الداخلي والخارجي للمغرب كل هذا الاستنزاف؟ أضف إلى ذلك، أن صورة الواقع لا تبدو واضحة لدى صناع القرار.

قبل سنوات، وبسبب أزمة النقل بين تازة وجرسيف اضطررت للركوب مع أحد "الخطافة"، وكان ذلك بعيد التفجيرات الإرهابية لسنة 2003، السائق ومن باب "التنكيت"، سأل الركاب هل بينكم منتمون لـ"السلفية الجهادية"، وهو المصطلح الذي كان يومها يرفرف في كل مكان، فأجابه أحد الركاب جازما "ليس هناك سوى السلفية البطالية"، تعبير في قمة البلاغة، فالشاب كان متجها للعمالة للاستفسار عن مصير جواز سفره، وبقية سيناريو"الحريك" معروفة.

"السلفية البطالية" هي الخطر الذي يهدد المغرب أكثر من كل شيء آخر، ولا شيء يساعد على توفير عوامل الانفجار أكثر من الفساد الذي عم البر والبحر وحتى الجبل.. أية رسالة يمكن أن يفهمها الرأي العام حين تتم مكافأة شخص متهرب من أداء مليار سنتيم للضرائب بحقيبة وزارية؟ كم يبني هذا المليار من مستوصف في الريف المنكوب؟

وقبل أسابيع، وعلى متن سيارة أجرة كبيرة بضواحي العاصمة أطلق أحد الركاب كلاما خطيرا جدا، جدا، من النوع الذي كان المواطن حتى زمن قريب لا يستطيع ترديده حتى في أحلامه، وهو كلام لا علاقة له بالتهريج السياسي الذي يدور اليوم في الساحة السياسية والإعلامية، خلاصة ما قاله صاحبنا المقيم في "جمايكا" تمارة تتمثل في كون الخطر الحقيقي الذي يتهدد المغرب لا يوجد في مكان آخر غير أحزمة البؤس التي تنتشر في البوادي والحواضر، برعاية خاصة من الفساد المدعوم "رسميا".

لا أريد هنا الحديث بلغة ماركسية حول "صراع الطبقات" والحقد أو التطلع الطبقي، لكن الحقيقة واضحة، مراهقون "يلعبون" في الشوارع بسيارات قيمتها مئات الملايين ويسخرون من رجال الشرطة علنا، ويستخفون بالقانون والمؤسسات، وأقصى ما تتم معاقبتهم به، وصفهم بـ"أولاد لفشوش". وأطفال المغرب العميق يموتون لأن الممرض أو سائق سيارة الإسعاف لم يحصل على 20 درهما كـ"قهوة". 

قبل سنوات طويلة أكدت أن هناك جهات في محيط صناعة القرار تعادي الديمقراطية وتحاربها جهارا نهارا، وهناك جهات في الطبقة السياسية و"النخبة" الفكرية تدرك أنه لا مكان لها في ظل ديمقراطية حقيقية، وحذرت من مخاطر زواج كاثوليكي بين الطرفين، ويبدو أن المحذور قد وقع فعلا، وما علينا سوى انتظار "الساعة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.