شعار قسم مدونات

هل نُرحل عوائل داعش؟

مدونات - داعش
في شهر تموز/ يوليو 2014، كنت أحادث تلفونيا أحد الزملاء، وكنت أحاول أن أثنيه عن قراره في الانضمام لداعش، كان مصرا إصرار عجيبا، وكان يردد الخطاب السائد حينذاك: أنهم سيقاتلون الكفار، وينتصرون ويفتحون، إلخ، والمفارقة العجيبة، أن والد هذا الشخص، وقبل سيطرة داعش على الموصل بأشهر معدودة، تعرض إلى تهديد واستفزاز كبيرين، وطلبوا منه 80 ألف دولار (آتاوة)، وتعرضت هذه العائلة لرعب شديد في وقتها. وعندما كنتُ أذكّر هذا الصديق بهذه الحادثة، كان يردد أيضا ذات الخطاب الذي يقوله إعلام داعش: “أنهم بعد الفتح يختلفون عمّا كانوا قبله”. ولولا تدخل صديق آخر أثّر عليه بشكل أكبر، لأصبح حطباً لهذه المعركة.. هنا، تخيل معي موقف والد هذا الصديق لو أن ابنه ذهب مع أعدائه وقاتل في صفوفهم، هل سيكون راضٍ عنه؟
لوالدتي صديقة، امرأة على جانب كبير من الاحترام والتقدير، ذهب أحد أبنائها لصفوف داعش، قبيل بدء معركة الموصل بفترة بسيطة، وبعد أن عجزت عن إرجاعه إلى جادة العقل والصواب، ذهبت إلى معارفها وجيرانها الموثوقين، وقالت لهم: إني غير راضية عما يفعله فلان، وإني أبرأ منه أمام الله وأمامكم عن فعلته.

يتفق الجميع أن أحد مصادر تغذية داعش هو الظلم والإجراءات العقابية الجماعية التي وقعت على المدنيين في السنوات السابقة، والتي قيّدت حياتهم، وضاقت بهم ذرعاً، حتى ما وسعتهم الأرض، ولذا فإن التعامل مع الأحداث الراهنة يقتضي الحكمة البالغة.

في المقابل، كانت هناك عوائل تواطأت مع أبنائها الدواعش وغضّت الطرف عن جرائمهم، وعوائل أخرى انخرطت بأكملها مع داعش، برجالها ونسائها، واليوم، جميع هذه العوائل تسمى “عوائل داعش”.

واقعيا هناك فرق بين أولئك الذين رفضوا فعل أبنائهم، وكانوا بالضد من مواقفهم، ولكنهم كانوا كما عموم الناس، مغلوبون على أمرهم، لا يستطيعون البوح بوجعهم، وبين العوائل التي كانت حاضنة وداعمة لداعش، والتي قدمت أولادها وهي تفتخر بهم، وكانت ترى الناس وهي تُقتل وتُغتصب حقوقها، وهم راضون ويباركون، والفرق بين هولاء وأولئك كبير جداً، ولا يمكن أن يُعدون جميعا في خندق واحد أبدا.

اليوم، نحن أمام مفصل تاريخي، وأزمات حساسة ستحدد مستقبل الأجيال وترسم شكل المدينة القادم، والدور الفعّال في أيام ما بعد الحروب الطاحنة خصوصاً، لا ينفك عن جهتين رئيسيتين اثنتين، الحكومة وأعيان البلد:

أما الحكومة فلها دورها المتعارف عليه، والواجب القانوني أولا والأخلاقي ثانيا تجاه الموصل، والذي آمل أن تقوم به على وجهه الصحيح، وأن تكون محنة داعش فرصة لتجاوز الأخطاء التي وقعت في الوقت السابق، والتي كلفت الموصل الكثير الكثير.

وأما أعيان البلد ووجهاؤه، فهم أمام اختبار فاصل، وأمام مشاكل متشابكة جدا، والفرصة أمامهم على الرغم من صعوبتها وثقلها إلا أنها سانحة، لتشكيل مجلس من أعيان الموصل للمراجعة والمصالحة، يقوم على فض النزاعات، وتحكيم لغة العقل بدلا عن لغة الدم، والفصل والقضاء عرفيا وشرعيا وقانونيا بما خلفته الحرب وأوزارها من تراكمات ومشاكل لا تُحل دون تدخل هولاء.

وتشكيل هكذا مجلس يقع على عاتق وذمة جميع مثقفي ووجهاء الموصل وما حولها من شيوخ عشائر وزعامات تلك النواحي والقرى، فالمرحلة الحالية، لا تتحمل نصف المشاركة أو نصف التمثيل أو إقصاء أي طرف لأي سبب كان، ولا تقبل دون تظافر الجهود، وتبادل الأدوار.

هكذا مجلس، إن تحققت به الهيكلية والمنهجية الصحيحتين، والشخصيات المتعددة والنافذة اجتماعيا وفكريا وأخلاقيا، فإنه قادر على تحقيق الفرز بين المذنبين الآثمين وبين الأبرياء، وبالتالي يكون هو من يقرر: من يحال إلى الإعدام والقتل، ومن يحال إلى السجن والاعتقال، ومن يعفى عنه.

التعامل مع الأحداث الراهنة يقتضي الحكمة البالغة والحذر من إعادة إنتاج التطرف، وبالمقابل، وأد البيئة التي تساهم في انتشاره، وإيجاد حالة من الاستقرار السياسي، وانتشال المدينة والأهالي من الدمار البنياني والنفسي.

إجمالا فإن تاريخ الشرق وحتى عالم الغرب قبل تجاوزه القرون الوسطى مليء بتفعيل مثل هكذا نماذج من الشخصيات الاجتماعية والقيادية، وقد استطاعت فعليا إيجاد حلول مجتمعية للمشاكل المعقدة، وبالتالي احتوت مرحلة فوضى واقتتال ونهب أموال، كانت قد تنفجر نتيجة لتصرفات فردية أو حتى جماعية.

يتفق الجميع أن أحد مصادر تغذية داعش هو الظلم والإجراءات العقابية الجماعية التي وقعت على المدنيين في السنوات السابقة، والتي قيّدت حياتهم، وضاقت بهم ذرعاً، حتى ما وسعتهم الأرض، ولذا فإن التعامل مع الأحداث الراهنة يقتضي الحكمة البالغة والحذر من إعادة إنتاج التطرف، وبالمقابل، وأد البيئة التي تساهم في انتشاره، وإيجاد حالة من الاستقرار السياسي، وانتشال المدينة والأهالي من الدمار البنياني والنفسي الذي لحق بهم خلال هذه السنوات.

وبناء على ما ذكر، أضعني أمام السؤال مجددا، والذي يتداول في كثير من المجالس والنقاشات المحلية: هل نُرحل عوائل داعش؟ والجواب، ينبغي أن يجيب عليه عقلاء القوم لا أفراده، وجهاؤه لا جهاله، محبوه لا الناقمون عليه، جمعه لا مفرده، أهل الحكمة والرأي منهم لا أهل التهور والمهاترات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.