شعار قسم مدونات

متيم بك.. إلى إشعار آخر

blogs-خاصم

بمجرد أن رآها أول مرة أمام الباب الرئيسية لقاعة الحفل، وهي في لباسها التقليدي الأصيل، واقفة على استحياء زانها وزادها وقارا وثقة بالنفس، ترقب والدها لعله يظهر بسرعة فلا تضطر إلى استعراض ما بدا منها من زينة لوقت أطول، لقد كانت مقاصدية الفعل، فلم تنتبه لأحد من المارة إلا الذي كانت تبحث عنه، لدرجة أن أحمد ظل متسمرا يحملق فيها لأكثر من خمس دقائق دون أن تلتفت إليه أو تدرك وجوده..

قد كانت في عمر الزهور، فتاة لا يمكن لمن عرفها إلا أن يحبها.. لم تكن صاحبة أفكار خبيثة، لكنها كانت ذات طبيعة عفوية.. ربما أكثر من اللازم! علم أحمد فور رؤيته لوالدها ابنة من تكون، ومضى في طريقه بعد أن رحلا، يفكر في اليوم الذي يراها مرة أخرى.. غريب أمره، لم يستطع أن يمكث بهدوء بعد لقائهما الأول، فلو لم يكن عاقلا لظن أنها قد كادت قصدا ما اختص به السحرة لتوقع به في شباكها، وهي التي لم تنظر إليه أبدا. أهذا ما يسمى بالحب من أول نظرة؟ ربما..

لم يستطع التوقف عن التفكير فيها، ثم قرر إخبار عائلته برغبته في الارتباط بها، استقبل كل الأهل الخبر بفرح ورغبة، وكيف لا، وقد أبهرهم وشوقهم لرؤيتها بعد مقدمته الطللية في وصف حسنها وجمالها.. في الجهة المقابلة، لا تزال فتاتنا تلهو مع شقيقها الذي يصغرها بضعة أعوام، لا تعرف الذي يعانيه الشاب ذو القلب المكلوم بعد يوم الحفل ذاك.. ولم تمر أيام كثيرة حتى طُرق باب المنزل المعمور، وإذا بالزائرين محملين بالورود والحلوى، لقد كانت الدهشة أكثر المشاعر حضورا في تلك اللحظة.. وبين أخذ ورد، وكلام وكلام، تتعالى أصوات النقاش والضحكات في غرفة الاجتماع تارة، ويخيم السكون على المكان تارة أخرى..

 

لطالما استغربت من قدرته على قولها بتلك البساطة، أحبك! لا أستطيع العيش من دونك! هي، الطفلة البريئة، كانت تظن أنها إن قالت ذلك فقد تسجل قسما لا رجعة فيه ولا تحلة.. فلم تكن قادرة على النطق بما هو ليس كائن

الصغار مستمتعون والفتيات من الأهل والأصحاب يوشوشن، ويحاولن إلقاء نظرة على الخاطب كي تقوم كل واحدة منهن بالتعليق على جزئية منه.. القاسم المشترك بين الجميع هو تلك الحالة من السعادة والحبور، إلى أن يأتي الإذن للمقصودة بدخول القاعة أخيرا، كي ترى الذي جاء يطلبها ويراها.. دخلت إليهم وعيناها لا تفارقان الممشى، سلمت على الإناث منهم واكتفت بالابتسامة لكبار الأسرة.. أما هو، فقد تركته محترقا لا يكاد يراها.. قد كانت تختبئ وراء أمها كي لا تعطيه فرصة إمعان النظر فيها.. فلم تكن على أية حال ترغب في أن تكسر حاجز الحشمة الذي ألفته منذ مدة طويلة.. 

طلب الآباء أن ينفرد المعنيان لمدة لا تجاوز العشر دقائق حتى يتم تأكيد القبول إن حصل، وتكون الكلمة الأخيرة للآنسة المصونة.. في تلك المدة القصيرة، كانت أشبه بالمتفرج لنشرة الأخبار، تستمع بإمعان إلى ما يحدثها به، عن مدى رغبته في أن تصير زوجة له وعن طموحاته وعن كل ما من الممكن أن يقال في تلك اللحظات، دون أن تتفوه بكلمة ترد عليه بها، إلا ما كان من إيحاء بالموافقة أو النفي.. أتى وقت الصلاة، وقبل أن يذهب، انتهز فرصة الاختلاء وأخذ وردة من الباقة، ثم قدمها لها، لم تفكر طويلا في الأمر، فقد أخذتها ثم انصرفت تجري إلى أن اختفت على بعد خطوات قليلة منه..

كل يوم بعد ذلك، كان يتصل بها ليعبر عن مدى حبه وتعلقه بها، فإذا مرضت ظل طوال الليل يتواصل معها ومع أهلها، يطمئن على حالها.. يشعرها بوجوده وكأنه معها.. في المقابل، كانت بمثابة خزان لآلامه وأفراحه، تحاول إسعاده والتخفيف عنه قدر الإمكان.. لكنها لم تصرح له يوما بما يحب أن يسمعه منها، لقد كان دائم الاستياء من عدم نطقها لتلك الكلمة، وفي كل مرة يحصل مشكل بينهما يرجعه إلى أنها لا تملك عاطفة تجاهه.. 

أما الأمر فقد كان مختلفا بالنسبة إليها، لطالما استغربت من قدرته على قولها بتلك البساطة، أحبك! لا أستطيع العيش من دونك! هي، الطفلة البريئة، كانت تظن أنها إن قالت ذلك فقد تسجل قسما لا رجعة فيه ولا تحلة.. فلم تكن قادرة على النطق بما هو ليس كائن.. أما بالنسبة للحب، فهو لا يقاس بعدد المرات التي نصرح فيها بوجوده.. الحب شعور مدلل، لا يحب أن يستهتر به، ولا يحب أن توزع تعابيره إلا على رفقاء الروح.. يتملك الإنسان الصادق تجاه الذي يعيش معه للأبد.. ثم إنها كان تحافظ عليها لليوم الذي يكون فيه زفافهما، فتسعده السعادتين، سعادة الشعور بالحب وسعادة التصريح به..

فتسرع الإنسان في توجيه أصابع الاتهام وإطلاق الأحكام بلا حجة ولا برهان.. كان سبب الخلافات العصية في كثير من الأحيان.. وهدم كل الذي بناه الراغب في ثوان.. بالرغم من محاولات المحب بعد ذلك لمداواة الجرح، لم يستطع! فكيف يسترد الإنسان الثقة بالأقوال إن لم تثبتها الأفعال

استمرت الأيام والشهور بالمضي، حتى باتت تعرفه جيدا كما لم يعرفه أحد من أقربائه، تتوقع أحاديثه وأفكاره وتصرفاته.. وبالنسبة له، فقد كان يزور أهلها من حين لآخر ليصل بذلك من تملك قلبه ويزيد الحنين إليه.. اقترب اليوم الموعود، وكثر الشوق وصار الوضع أكثر جنونا.. مرة شجار صامت مؤلم يحيك خيوطه البعد وسوء الفهم، ومرة اعتراف صاخب وسط شارع مليء بالبشر، يصيح فيه أحمد كمجنون القرن الحادي والعشرين: أنا متيم بحب خطيبتي!

بدأت الاستعدادات، وشارفت القصة على النهاية، وغدا القمر بهيا كاملا مستديرا.. وحدث ما لم يكن بالحسبان، عفوية المحبوبة صارت اتهاما، وزَيَّفَ الكائدون الوقائع.. وصار المحب مرتابا، وشَعَرَتْ بما لم تتمنه لإنسان يوماً.. مرارة الخذلان وسطحية الكلمات وكل ما لم تنتظره من عاشق ولهان.. بعد البحث والتدقيق، تكشف الزيف وصار الوضع متضحا للعيان، وعاد المحب إلى كلامه الجميل وعاد الوضع إلى ما كان عليه، إلا من المحبوبة الحزينة.. فقد ظلت تتساءل عن فائدة الكلمات إن لم تعبر عن صدق مشاعر الإنسان، لتترك العش يهوي فور انتزاع غريب لقشة من على سطح الجيران!

"وكان الإنسان عجولا.." تلك طبيعة البشر، فتسرع الإنسان في توجيه أصابع الاتهام وإطلاق الأحكام بلا حجة ولا برهان.. كان سبب الخلافات العصية في كثير من الأحيان.. وهدم كل الذي بناه الراغب في ثوان.. بالرغم من محاولات المحب بعد ذلك لمداواة الجرح، لم يستطع! فكيف يسترد الإنسان الثقة بالأقوال إن لم تثبتها الأفعال.. ما إن يكسر الصحن حتى يفقد إمكانية عودته كما كان! فلا أمل للعودة بعد الهجران، ولا أمل لإصلاح ما تم جرفه بالظلم والكفران.. وكل الواقع الآن هو نتيجة حتمية لسوء إسقاط النص على العنوان، متيم بحبك.. إلى إشعار آخر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.