شعار قسم مدونات

لا تَخلَعْ نَعليْك.. جولة في دوائر القداسة الزائفة

blogs - holly
كثيرةٌ هي المواضع التي تقفُ فيها وقفة تأمّل عند قراءتكَ لكتاب الله، وخصوصاً إذا كانت قراءتكَ له تأخذ طابعاً تدبُّرياً وتستهدف محاولة تفسير الآيات والوصول إلى معانيها، في أثناء قِراءتي لسورة طه لفتتني آية كريمة يُخاطب الله عزّ وجلّ عبرها كليمه موسى عليه السلام طالباً منه أن يخلع نعليه قبل الدخول إلى الوادي المقدّس الذي يحمل اسم "طوى".

وبغض النظر عن التفاسير الكثيرة التي وردت في الآية ووقفت على تفاصيل هذه الحادثة، فإنّ جميع هذه التفاسير وضَّحت بشكل أو بآخر أنّ النعل هنا يحمل رمزية ذات دلالة تُشير إلى المدنّس الذي يجب على الإنسان أن يخلعه قبل أن يتهيّأ للدخول إلى بقعة مقدّسة وطاهرة خالية من الشوائب والقذارات، يقول الله عزّ وجلّ لنبيه موسى في تلك الآية الكريمة: "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى".

وفور قراءتي لهذه الآية الكريمة أخذني ذهني إلى دوائر قداسات أُخرى لا تتعلّق بالله وأوامره ونواهيه، وإنّما بأوثان وأصنام لأفكار أو أشخاص أوجدها الإنسان في عقله وأحاطها بهالة القداسة، فباتت تطلب منه قبل الدخول إلى دوائرها أن يخلع، ليس نعليه هذه المرّة، بل عقله وفكره وإدراكه، فلا شيء يُهدّد هذه القداسات المزيفة سوى هذا الثالوث، ولا شيء يُعكّر صفوها أكثر من أولئك الذين يستخدمونه في تبيان حقيقتها والكشف عن جوهرها المليء بصنوف الدنس والكذب والتدليس.

من دوائر القداسة الزائفة أيضاً، دائرة العادة والعرف، وهذه الدائرة تقوم بممارسة نوع من أنواع السلطة الاجتماعية على الفرد، وتطلب منه الخضوع لها.

وقبل الولوج إلى دوائر القداسات الزائفة هذه، وجبَ علينا أن نعرف كيف تتشكّل هذه الدوائر ومتى يبدأ العقل الإنساني بالتعاطي معها كثوابت مقدّسة لا يجب الخروج عنها ولا ينبغي التعرّض لها بالنقد أو التفنيد؛ والمتتبّع لمراحل تشكّل هذه الدوائر لا يُمكنه إلا أن يُلاحظ ذلك المنحى التصاعدي الذي تأخذه في أطوار تكوّنها والذي يبدأ بدائرة صغيرة في مرحلة الطفولة، تتسّع ويتولّد داخلها دائرة أُخرى وهكذا.

فالطفل يُحاط بدائرة قداسة دينية مزيفة تبدأ باغتيال عقله النقدي المتسائل وتحرّم عليه أن يسأل بدعاوى العيب والحرام، وتبدأ دائرة هذه القداسة بالاتسّاع كلّما تقدّم الطفل في مراحله العمرية، ويتولّد منها دوائر قداسة زائفة أُخرى؛ بعضها اجتماعي يتعلّق بالعرف والعادة ويَطلب الامتثال لهما، وبعضها سياسي يتعلّق بالحاكم والسلطة ويُجرِّم الخروج عنهما.

إذن، تتعدّد دوائر القداسات الزائفة التي تُحيط بالإنسان وتتنوّع، وتأتي كلّها بشكل طوق يُحيط، وقيد يمنع، وسلسلة تُجرّم، وكبل يُحرّم، وأحد أبرز دوائر القداسة المزيفة التي تحيط بالفرد؛ دائرة الحاكم المستبدّ أو السلطة المستبدّة، الذي يحرص أو التي تحرص على إضفاء صفة القداسة على نفسه/ها والظهور بمظهر ظلّ الله في الأرض، فهو/هي والله واحد، طاعته/ها تجلب رضا الله، وعصيانه/ها يجلب غضبه.

ودائرة القداسة المزيفة هذه تظهر واضحة وبشكل جلي ببساطة عند ملاحظة مصطلحات مرتبطة بها مثل مصطلح: الخروج عن أمر الحاكم، فهذا المصطلح يَرِد في العادة -على ألسنة وعاظ السلاطين- مرتبط بالحرمة أو المنع ليجرّم أيّ محاولة للخروج عن أمر الحاكم حتى لو كان ظالماً، ويجعل في الخروج عن أمره خروجاً من دائرة يجب إيلاؤها بالتقديس الدائم والولاء الأبدي.

أحد أبرز دوائر القداسة المزيفة التي تحيط بالفرد؛ دائرة الحاكم المستبدّ أو السلطة المستبدّة، الذي يحرص أو التي تحرص على إضفاء صفة القداسة على نفسه/ها والظهور بمظهر ظلّ الله في الأرض.

ومن دوائر القداسة الزائفة أيضاً، دائرة العادة والعرف، وهذه الدائرة تقوم بممارسة نوع من أنواع السلطة الاجتماعية على الفرد، وتطلب منه الخضوع لها والامتثال لما أفرزته من تقاليد معروفة ومألوفة، وتُصبح رغبة الفرد بالخروج عنها هي بمثابة عصيان علني للسائد وما اتُّفِق عليه، من هنا يُمكن ملاحظة نمط النبذ المجتمعي الذي يُقابَل به أفراد قرّروا سلوك طريق التحدي للعرف والعادة والخروج من دائرة قداستهما الزائفة.

ويضاف إلى هاتين الدائرتين من دوائر القداسة الزائفة، القداسة التي يحيط بها المنتمون انتماءاتهم المختلفة سواء أكانت مذهباً أو أيديولوجية أو طائفة أو حزباً؛ فالمنتمون الذين يُحيطون مذهبهم أو أيديولوجيتهم الفكرية أو حزبهم أو طائفتهم بهذه الهالة من القدسية يَرون فيها بناءات كاملة لا حاجة للتعرّض لها بالقراءة والاطلاع والنقد والتفنيد، وهذا الاعتقاد بامتلاك الحقيقة الكاملة هو ما يدفعهم بالاتجاه نحو سلوك منحىً جامد وصلد في التعاطي مع الآخر المخالف باعتبار كلّ ما يجيء به باطلاً، وهو ما يجعلهم يتحولون بالضرورة من مواقع المرونة إلى مواقع التشدّد والتعصّب، ويُصبحون أصوليين مهما كانوا بعيدين عن الفكر الديني، فكما أنّ هناك أصولية إسلامية فهناك أصولية علمانية أو إلحادية وغيرها.

ومن هذه النقطة الأخيرة بالذات يُمكن فهم تصرّفات بعض الأشخاص الذين يقدّمون أنفسهم باعتبارهم أشخاص تنويريون أو متنوّرون لمجرّد أنّهم غير خاضعين لأي منظومة دينية، فهؤلاء يُضفون على لادينيتهم نوعاً من أنواع القداسة، وهم في مقابل ذلك يُعطون لأنفسهم الحقّ في ممارسة نوع من أنواع عربدة التنوير أو ظلامية التنوير بأن يطلقوا أحكاماً تعميمية جائرة ويتعاملون مع أيْ إنسان خاضع لمنظومة دينية باعتباره إنسان ظلامي، وكأنّ المنظومات الدينية تتناقض مع مبادئ التنوير، وكأنّ الإنسان الذي يؤمن بها ظلامي في كلّ حالاته حتى لو كان من أشرس المدافعين عن مبادئ العدالة والحرية والمساواة وغيرها؛ هذه المبادئ التي تقع في صميم التنوير وتُشكّل عصبه الرئيس!

إنّ هناك العديد من دوائر القداسة الزائفة التي تحيط بالإنسان كالسجون المحصّنة، وتستهدف بالدرجة الأولى تقييده وتكبيله، وتحصينه بحدود مقدّسة زائفة عليه أن يقف ولا يتجاوزها.

ومن دوائر القداسة الزائفة -كذلك- تلك الدائرة التي تتجاوز تقديس البناءات الأيديولوجية والحزبية وتذهب إلى تقديس الأشخاص سواء أكانوا وعاظاً أو شيوخاً أو مفتيين أو مفكرين وغيرهم من أرباب العلم والفكر؛ فدائرة التقديس هذه عندما تُحيط بهؤلاء تجرّهم نحو مواضع التأليه، فلا يعودوا بَشَراً بقدر ما يُصبحوا أنبياء معصومين لا ينطقون عن الهوى فلا يجوز التعرّض لهم بالنقد وكشف المزالق حتى لو ظهرت أخطاؤهم واضحة كعين الشمس، ولا يجب تبيان هفواتهم وكبواتهم مهما تبدّت كاشفة عن جوانب نقصهم وقصورهم.

وإنّ الصدمة التي يُصاب بها بعض الناس من أطروحات شاذة يأتي بها بعض الأشخاص الذين يعتبرونهم قدوات دينية أو فكرية -يُناقضون فيها أنفسهم ودعاويهم ضدّ الظلم وأهله- لهي أكبر دليل على هالة القداسة التي بنوها في أذهانهم حول هؤلاء، ناسين أو متناسين طبيعتهم كبشر يصيبون ويُخطئون ويتِّبعون الهوى، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

أخيراً، فإنّ هناك العديد من دوائر القداسة الزائفة التي تحيط بالإنسان كالسجون المحصّنة، وتستهدف بالدرجة الأولى تقييده وتكبيله، وتحصينه بحدود مقدّسة زائفة عليه أن يقف ولا يتجاوزها؛ فالثائر عليه أن يُوقف ثورته لأنّها خروج عن أمر الحاكم، والخارج عن العادة عليه أن يعود ويخضع لها لأنّها سلطة مجتمعية موروثة، والناقد الذي يتعرّض بالنقد للبناءات الأيديولوجية أو الفكرية أو الشخوص الفكرية أو الوعظية عليه أن لا يُقدم على هذه الخطوة التي تطعن في ألوهية هذه البناءات والشخوص لمجرّد أنّها تتجرّأ على نقدهم وبيان جوانب الخطأ والقصور لديهم.

إنّها دوائر القداسة الزائفة تلبسُ ذات الله وتُحيط بكَ من كلّ جانب، تريدكَ أن ترى الله فيها، وتخاطبك دائماً بخطابِ طهرها الكاذب وقداستها الزائفة: هذه مواطئ أوديتي المقدّسة، فاخلع عنكَ ثورتك وفكرك وعقلك وإدراكك، اخلع عنكَ كلّ هذا الدنس وادخلني ولا تخلع نَعليْك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.