شعار قسم مدونات

فوبيا الاختلاف أو خرافة الردة

blogs - قرآن الفاتحة
قبل أيام وأنا أقرأ أحد المراجع الدينية القديمة، وجدت إحالة إلى حديث نبوي مشار إليه في الكتاب، وقد ورد أصلا في صحيح البخاري حديث: 2794 حسب ترقيم العالميّة، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتلوه). ودون الوقوف الآن على تفاصيل ورود هذا الحديث ومناقشة مدى صحته، فإن القراءة الأولية تبين أن فيه دعوة صريحة لقتل كل من بدل دينه، وغالبا ما يوظف هذا النص إلى جانب أحاديث أخرى للاستدلال به على وجوب تطبيق حد الرِّدة، التي تشير -كمصطلح تم تداوله في الحقل الديني الإسلامي- إلى الخروج عن دين الإسلام بعد الدخول فيه وإلى الرجوع عنه. وأما الحد الموصى بوجوب تطبيقه في مثل هذه الحالات فهي عقوبة واحدة لا مناص منها وهي: القتل.

والغريب جدا، أن أمرا يحسم في أرواح الناس كهذا لم يتم ذكره في القرآن الكريم، الذي -على العكس من ذلك- تضمنت آياته الكريمة أروع التوجيهات الربانية نحو قيم إنسانية كونية تنشد السلم والتسامح بين الأجناس والأديان، وتؤسس لمفاهيم تقبل الآخر والعيش المشترك على جغرافيات واحدة. فكيف يمكن الجمع بين آيات تدعو إلى مراعاة حرية الاعتقاد وأحاديث ملفقة على الرسول الكريم تدعو إلى قتل المرتد؟

في الحديث أعلاه ما نصه: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولفّق على النبي في أنّه قال: لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث، الثيّب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة. أليس الداخل إلى الإسلام مبدلا لدينه تاركا لدين الجماعة التي كان على دينها؟ فكيف وجب قتله إذن؟

المسألة كانت سياسية صرفة لا غير، وهي على الحقيقة من اختراع الدولة العباسية والدولة الأموية للتخلص من معارضيهم وقمعهم بتهمة الردة وبرروا أفعالهم -إلى جانب النصوص الموضوعة- بالحروب التي قام بها أبو بكر ضد المرتدين.

وحتى في حال كون المقصود بالدين هنا الدين الإسلامي بالتخصيص، كيف يمكن تلقي قوله تعالى في الآية الكريمة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). التي هي واضحة وصريحة تنأى عن أي التباس بعدي، وتوضح أن مسألة الإيمان أو الكفر مبنية على الاختيار الحر، وليست مبنية على القسر والجبر أو الإكراه كما ورد في الأحاديث الملفقة، وهذا ما تؤكده أيضا الآية الكريمة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). لا وجود إذن حسب الآيتين لأي إكراه أو جبر فيما يخص التدين، وهذا واضح تماما، إلا أن المؤسسين لأكذوبة حد الردة هذا صنعوا لهذا الغرض قصصا وأقاويل لفقت على الرسول الكريم وربما على رواة أحاديثه كذلك.

والحال أن المسألة كانت سياسية صرفة لا غير، وهي على الحقيقة من اختراع الدولة العباسية والدولة الأموية للتخلص من معارضيهم وقمعهم بتهمة الردة وبرروا أفعالهم -إلى جانب النصوص الموضوعة- بالحروب التي قام بها أبو بكر ضد المرتدين، والتي كانت في الواقع حروب فتنة وليست حروب ارتداد عن الدين، كما أن الذين حاربهم أبو بكر كانوا مختلطين وليسوا كلهم مرتدين، وكانت القضية تخص إدارة شؤون الدولة ولم تكن تنفيذا لحكم شرعي أبدا، ما دام هذا الحكم لم يرد ذكره قطعا في القرآن الكريم، كما أن الرسول لم يقتل أبدا مرتدا إلا إذا كان محاربا، ولو كانت الأحاديث سالفة الذكر، وكل التي على شاكلتها صحيحة عن الرسول لفعل ذلك في حياته، ولطبقت العقوبة في عهد الخلفاء، فعمر بن الخطاب مثلا لم يقتل أحدا من المرتدين في عهده، ومنه يتبين أن عقوبة الردة كما سلف الذكر لم تكن حكما شرعيا بقدر ما كانت قرارا سياسيا. ثم أليس من اليسير على الله تعالى -وهو القادر على كل شيء- أن يوحد الناس على دين واحد؟ أم هو خوفنا الوجودي الدائم من الاختلاف؟

الآيات المتضمنة في القرآن الكريم بخصوص هذا الشأن واضحة وصريحة جدا وتفيد كلها بعدم جبرية التدين، وحتى الآيات المذكور فيها الارتداد عن الدين والتي وردت فيها عقوبات المرتدين لا نرصد فيها وجود أي عقوبة دنيوية.

كيف يمكن الوثوق بحديث عقوبة الردة مع قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).وقوله (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).

فالآيات المتضمنة في القرآن الكريم بخصوص هذا الشأن واضحة وصريحة جدا وتفيد كلها بعدم جبرية التدين، وحتى الآيات المذكور فيها الارتداد عن الدين والتي وردت فيها عقوبات المرتدين لا نرصد فيها وجود أي عقوبة دنيوية يُنص على تطبيقها، بل كل العقوبات هي عقوبات أخروية، فالله تعالى وحده من له حق الجزاء والعقاب وكل محاولة لتولي الإنسان مهام الله إنما هو ضرب من التطاول، ولعل من ذلك قوله تعالى في الآية السالفة الذكر (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً) فالعقاب المذكور في الآية الكريمة عقاب في الآخرة لا دخل فيه للبشر،و قال سبحانه:(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

وكثير من الآيات الواردة في القرآن الكريم تؤكد ذلك، قال تعالى (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ.إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ.إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ).

يتبين عقلا ونصا أنه لا مجال أبدا لتصديق روايات وأحاديث ملفقة تحرف الكَلم عن مواضعه، وتقول بما لم يرد في كتاب الله ولم يقله رسوله الكريم، ولا يمكن الأخذ بهذا فقط لأنها من مخلفات أصنامٍ أسلاف.

في هذه الآيات يخبرنا الله تعالى أن من اتخذ دينا غير دين الإسلام فلن يقبل منه عند الله ولم يذكر وجوب أي تدخل بشري، ثم قوله تعالى (إلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ). الذي يوضح أن من تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم، فأنى لهم أن يتوبوا ويصلحوا وقد قُـتلوا تنفيذا لعقوبة الردة المزعومة؟ كيف لنا أن نوفق بين هذه الأحاديث الموضوعة وهذه الآيات/الأدلة؟ كما أنه جاء في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). ولم يذكر قتلا أو ما شابهه.

يتبين عقلا ونصا أنه لا مجال أبدا لتصديق روايات وأحاديث ملفقة تحرف الكَلم عن مواضعه، وتقول بما لم يرد في كتاب الله ولم يقله رسوله الكريم، ولا يمكن الأخذ بهذا فقط لأنها من مخلفات أصنامٍ أسلاف. إننا، وفي هذه الظروف، بحاجة ملحة لإعادة النظر في علاقتنا بالتراث الديني وبالنص المقدس وفق رؤية عقلانية، بدل ثقافة التسليم وإلغاء الفكر النقدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.