شعار قسم مدونات

عن الدور الوظيفي للنظام الرسمي العربي

blogs - خريطة العالم
أدركت القوى الاستعمارية التي تعاقبت على العالم العربي الطبيعة الاستثنائية لشعوب المنطقة، من فدائية منقطعة النظير، واستعداد أسطوري للتضحية والبذل لإنهاك المستعمر ودحره، وتصلب فكري وعقدي وثقافي يستعصي على كل محاولات الاحتواء أو الإلحاق أو تذويب الذاكرة التاريخية. وقد فهم الاستعمار الأجنبي هذه الحقيقة على المستوى النظري من خلال الجهود الاستشراقية الهائلة التي كرسها لدراسة العالم العربي الإسلامي عن كثب تمهيداً لتحقيق الاختراق، كما وعاها واقعاً من خلال صدام استعماري مباشر تعرف من خلاله إلى الروح التحررية الهائلة لشعوب المنطقة، ينضاف إلى هذا كله تجربة الغرب التاريخية في ثماني حملات صليبية على المشرق امتدت لما يقرب من قرنين من الزمان (490 – 670هـ) الموافق (1096 – 1272م)، وما زالت حاضرة بقوة في لاوعي الشخصية الغربية حتى اليوم، فضلاً عن الصدام بين الإمبراطورية الرومانية والمسلمين قبل ذلك. 
وقد أظهرت التجارب الاستعمارية أن محاولات الغرب الحثيثة للهيمنة على العالم العربي واستلاب إرادته ليست وليدة أطماع استعمارية فقط، ولكنها خلاصة تجربة غربية مفادها أن الهيمنة على هذا الجزء المهم من العالم شرط لتفرده بالريادة الحضارية، وهي ريادة ينازعها عالم عربي موصول الأقاليم فيه مختلف المناخات، يتوسط مواقع الدنيا وطرق مواصلاتها، وفيه أوفر ثروات الدنيا وأثمنها، فهو الأول في النفط والمنجنيز والكروم والقصدير والبوكسيت والغاز الطبيعي، وفيه أطول أنهار الدنيا، ومساحات هائلة صالحة للزراعة، فضلاً عن ثرواته البحرية، إلى جانب رأس ماله البشري الفتي، ووحدته اللغوية والعقدية والتاريخية، ومكانته الدينية والروحية، وهي مُقدَّرات كفيلة ببعثه حضارياً في فترة قياسية إذا ما قدر له أن يمتلك إرادته.

نجحت الأنظمة الوظيفية بالفعل في خدمة المشروع الصهيوني، إلى جانب دورها المحوري في سحق الإرادة العامة للشعوب وتجيير ثروات الأمة ومقدراتها لصالح الغرب، فبذلت جهوداً كبيرة في تكريس المشروع الصهيوني كأمر واقع في العقل الجمعي العربي.

والمشروع الاستعماري كغيره من المشاريع الاقتصادية، يتفكك إذا فقد جدواه الاقتصادية وأصبحت تكلفة الحفاظ عليه باهظة، فلا النضال الجزائري فاق فرنسا عدداً وعدة، ولا الكفاح الفيتنامي تفوَّق نوعياً على الترسانة الأمريكية، بل كل ما هنالك أن نهاية المشاريع الاستعمارية تتطلب امتلاك الشعوب من الإرادة التحررية ما يؤهلها لاستنزاف المشروع الاستعماري وتعظيم تكاليفه إلى الحد الذي يُفقده جدواه، ويجعله عبئاً على الدولة المستعمرة، حينها يتفكك تلقائياً وتضطر الدولة الاستعمارية إلى التخلي عنه.

وفي الحالة العربية، وبعد الفشل الذي مُني به المشروع الاستعماري المباشر للمنطقة، كان سؤال ما بعد الاستعمار هو كيفية الموازنة بين حاجة المستعمر الوجودية للمنطقة، كرغبة انتهازية تضمن تفوقه حضارياً، وفي الوقت ذاته عدم قدرته على تكبد تكاليف الوجود المباشر بفعل النضالات الدامية التي خاضتها حركات التحرر في العالم العربي، فكانت الحاجة ملحة إلى خلق أنظمة وظيفية تحافظ على الجدوى الاستعمارية دون أن يضطر المستعمر لدفع التكاليف المباشرة لاستعماره، وفي الوقت ذاته ترهن هذه الأنظمة الوظيفية الأوطان للمستعمر الأجنبي اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.

وإذ خضعت دول كثيرة عبر التاريخ لتبعية قوى إمبريالية، إلا أن منظومة التبعية العربية تعد حالة استثنائية تاريخياً، يقف المراقب إزاءهاً مملوءاً بالدهشة؛ لأنها تكاد تكون أكبر منظومة عرفها التاريخ تعمل وفق منهج متناهي الانضباط والدقة لتنفيذ المشيئة الغربية على امتداد هذه المساحة الجغرافية الهائلة من الوطن العربي الكبير، فضلاً عن احتفاظها بقدرة عجيبة على العمل لعقود طويلة بما يصادم إرادة مئات الملايين من شعوب المنطقة.

وقد أظهرت أحداث الربيع العربي أن قدرة هذه المنظومة الإقليمية على الدفاع بشراسة ودموية عن دورها الوظيفي لا يقل براعة عن قدرتها على الظهور، أمام شعوبها، بمظهر الفضيلة طوال عقود مضت؛ الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة على فكرة استقلال العالم العربي في مجمله، فضلاً عن إقامة الأفراح والليالي الملاح احتفالا بـ "يوم الاستقلال" أو "العيد الوطني" على امتداد الأقطار العربية، على أن هذا الاستقلال الموهوم ما زال متلعثماً أمام سؤال التنمية بعد مرور عقود متطاولة على "الاستقلال".

وقد استفاد المشروع الصهيوني كثيراً من التجارب الاستعمارية التي مرت على العالم العربي في توطيد استعماره وإدامته، فكان من أهم العبر التي استخلصها أن دخوله، وحيداً، في صدام مباشر مع محيط شعبي معاد هو أشبه بمعركة صفرية محكوم عليها بالفشل، بحكم الواقع والتاريخ. وأن فكرة البحث عن وكيل محلي يتحمل عناء التكاليف الاستعمارية ويحافظ على "الجدوى الاستعمارية" هي فكرة شديدة الجاذبية والحيوية بالنسبة له، فاصطنع من الأنظمة الوظيفية، القريبة والبعيدة، ما يكفيه مؤونة الدخول في صدام مباشر مع هذا المحيط الذي يستنزفه أمنياً واقتصادياً، بل وإعلامياً، بحيث أحال كثيراً من السلوكيات الاستعمارية الشائنة التي من شأنها تقبيح صورته، أمام الرأي العالم العالمي، إلى من يجد في نفسه القابلية لحملها من هذه الأنظمة الوظيفية.

التاريخ لن يضمن للمشاريع الاستعمارية، سواء القائم منها حالياً، أو التي تمارس استعمارها بالتفويض من وراء البحار، استمرار وكلاء الحفاظ على الجدوى الاستعمارية، لأن هذه المشاريع ستكون مضطرة في نهاية المطاف إلى دفع ثمن استعمارها.

وقد نجحت الأنظمة الوظيفية بالفعل في خدمة المشروع الصهيوني، إلى جانب دورها المحوري في سحق الإرادة العامة للشعوب وتجيير ثروات الأمة ومقدراتها لصالح الغرب، فبذلت جهوداً كبيرة في تكريس المشروع الصهيوني كأمر واقع في العقل الجمعي العربي، وقدمته على أنه جزء طبيعي من الجغرافيا العربية واستحقاقات التاريخ في المنطقة، ثم عملت جاهدة على تيئيس الشعوب من القضية الفلسطينية، وتصوير الحلول التحررية أو الثورية لها على أنها فكرة عبثية أو مواجهة مجنونة. ولعل الجهود التطبيعية قد وصلت ذروتها هذه الأيام باستعداد خادم الحرمين الشريفين، أطال الله بقاءه، لتبادل الرحلات الجوية مع "تل أبيب"، لينتقل الغزل الإسرائيلي السعودي من الخفاء إلى العلن، وهي خطوة جديدة قد تستعين السعودية، لتعزيزها والبناء عليها، بخبرة القيادة الإماراتية الرائدة في هذا المجال؛ لأسبقيتها وريادتها في الانضمام لنادي المتصهينين العرب.

وإذا كان الدور الذي يمارسه "وكلاء الجدوى الاستعمارية" وجودياً بالنسبة للمشروع الصهيوني، إلا أنه في الوقت ذاته مؤشر على ضعف هذا المشروع وهشاشته؛ لأنه لم يعد قادراً على الحفاظ على جدواه بنفسه، فأحال الأمر إلى الأنظمة الوظيفية التي شكلت له شبكة أمان وحماية إقليمية واسعة النطاق لم يعد قادراً على العمل دونها.

في المحصلة فإن التاريخ لن يضمن للمشاريع الاستعمارية، سواء القائم منها حالياً، أو التي تمارس استعمارها بالتفويض من وراء البحار، استمرار وكلاء الحفاظ على الجدوى الاستعمارية، لأن هذه المشاريع ستكون مضطرة في نهاية المطاف إلى دفع ثمن استعمارها، المباشر وغير المباشر، دون أن تجد من يتكبد هذه التكاليف نيابة عنها، فالمنطقة تشهد خلخلة شديدة لهياكل سايكس بيكو، ورياح التغيير لا تجري دوماً بما تشتهيه حسابات المراهنين على دوام الحال.

…أدري أن كثيراً مما ورد في المقال يعد بديهياً، بيد أن التزاحم المدهش لنيل عضوية نادي المتصهينين هذه الأيام بات يدعونا إلى التذكير بالبديهيات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.