شعار قسم مدونات

يا جبّار الخواطر.. يا الله

A muslim woman prays near the Hira cave at the Mount Al-Noor ahead of Hajj at the Holy City Of Mecca, Saudi Arabia 07 September 2016. Muslims believe Prophet Muhammad received the first words of the Koran at the top of Mount Al-Noor but the visit of the cave is not part of Hajj. The Haj pilgrimage 2016 takes place in Mecca from 09 to 14 September.
في وداعيّات رمضان قبل عدّة سنوات، أذكر أنّها كانت ليلةَ السّابع والعشرين، وقفَت إلى جواري تمامًا امرأة في منتصف الثلاثينيّات، وجهُها لا يفارق ذاكرتي مهما حاولت. عباءَتها السوداء، وحجابها الورديُّ المعقود على رأسها كيفما اتفق، وبشرتها السمراء، حتّى التجاعيدُ الخفيفة حول عينيْها لا تزال مطبوعة في ذاكرتي بوضوح. لم أتكلّم معها ولا كلمة لكنّها كانت من الأشخاص القليلين الذين غيّروني إلى الأبد.

كنّا نصلي خلف الإمام طوال الليل، والواحِدُ يتعب، لكنّ تلك المرأة لم تبالِ أبدا؛ كانت فورَ تسليم الإمام تقف وترفع يديْها إلى السّماء، وتشخَصُ بعينيْها الغارقتَين بالدّموع أيّما غرق، وتردّد كلمة واحدة (يا جبّار الخواطر يا الله. يا جبّار الخواطر يا الله. يا جبّار الخواطر يا الله.) – تمضي أوّل ساعة، وثاني ساعة، وثالث ساعة، والمرأة لا تدعو سوى بهذه الكلمات. ولا تكفّ عن البكاء. ولا تكلُّ. ولا تملّ.

أدركتُ أنّني لم أدعُ اللهَ من قبلُ أبدًا كما يليق، و ينبغي. أيقنتُ في تلك اللّحظة أنّ هذا هو الدّعاء وأنّه لا يكون سوى بهذه الطريقة. لا يكون سوى بهذا الإلحاح. لا يكون سوى بهذه الثقة.

يا ربُّ ما قصّتُها؟ ما سرّها؟ ما حاجتُها التي اضطرّتْها كلّ هذا الاضطرار؟ لم أعرف أبدًا. ولم تواتِني الجرأةُ لأسألَها، فقد خفتُ أن ألفِتَها عن قداسة النّداء الذي تنادي بهِ ربّها، "جبّار الخواطر". أُخِذْتُ بخشوع المشهد، كان مشهدًا غريبًا لم أرَ مثلَه في حياتي. لمْ أستطع أن أفكّر بشيء وأنا مشدوهةٌ بالّذي أراهُ وأسمعُه لأوّل مرّة محاوِلةً استيعابَ الطّريقة التي تقرعُ بها هذه المرأةُ باب الله! كانت كلماتُها بسيطة سمعتها كثيرًا من قبل وهي تتردّد على الألسنة، لكنّ تلك النّبرة الجريحة كانت أصدقَ من أيّ شيءٍ سمعته، وأصدقُ من كلّ تلك الكلمات المنمّقة والمقفّاة التي ترصّ بجانب بعضها بغرض الدعاء. ماذا عن ذلك التكرار لـ"جبار الخواطر" وكأنّها كلّ ما تعرف من اللغة؟

أدركتُ حينها أنّني لم أدعُ اللهَ من قبلُ أبدًا كما يليق، و ينبغي. أيقنتُ في تلك اللّحظة أنّ هذا هو الدّعاء وأنّه لا يكون سوى بهذه الطريقة. لا يكون سوى بهذا الإلحاح. لا يكون سوى بهذه الثقة. ثمّ فكّرتُ لو أنني ظلمتُ أحدًا في حياتي ودعا بتلك الطريقة اللّحوح قاصدًا إيّاي، من سيُنجّيني؟ يا الله! إن كنتُ أنا الهباءةُ في هذا الكون الشّاسع لا أستطيعُ أن أرفض طلبًا لأحدٍ يضعُ آمالَه عليَّ ويُحسنُ ظنّهُ بي إلى هذا الحدّ، فكيف بالكريم الجواد الذي يستحي أن يردَ يدا عبدٍ رُفِعَتا إليه صفرًا خائبتيْن؟ يا الله ما أعظمك! يا الله ما أرحمك! يا الله ما أجوَدك!

في كل مرّة تضيقُ بي الدّنيا أو أضيقُ بها أتذكّر تلك المرأة وأردّد دون تفكير (يا جبّار الخواطر يا الله، يا جبار الخواطر يا الله) فأشعر بالرّاحة وأنسى ضيقـي. في الجنّة سأطلب من الله أن أقابل تلك المرأة. لكم خفّفَت عني هذه الحياة وهي لا تدري!

"وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.