شعار قسم مدونات

هي ممتنة لك

blogs - travel
رغم غيابك عنها لعامين كاملين، ارتضت فيهما عذابات لم تكن أنت لترتضيها لنفسك. وكيف ترضى؟! وأنت الثائر الغضيب! وما كُنت لتهدأ إلا بعد أن تنتصر لنفسك، عامان وجهها يتقلب في السماء؛ دامعة المقلتين، مجروحة الفؤاد، قليلة البسمة، كثيرة البكاء. وما سمعتها يوماً تذمرت وما اشتكت، ولكن شكرت لك جودك عليها؛ بما هو واجب عليك، وما نسيت أن تشكر ربها أن أوجدك لها، وإن كنت بعيداً عنها. عامان وهي تكابد الشوق، وتدعي أن صوتك يطفئه. وما لها ألا تدعي؟! وهي لا تملك منك إلا صوتك! ورغم ذلك هي ممتنة لك!

عامان يا فتى ما جاءها منك إلا الصوت، وبضعة دراهم، ويا ليت الدراهم تغني، لكنها واستها لأنها منك، فأعتبرت ما يأتي منك هو: عنوان الحب والوصال، وكأنها قد أكتفت منك في عاميها هذين بما هو منك وليس أنت، وهل تملك لنفسها إلا هذا منك؟! عامان وهي تغطي مرآتها؛ علها تحجب عنها انعكاس وجهها الذي سلبه البعد نضارته، وأفقد عينيها بريقها، فارتضت أن تكون مجهولة في هذين العامين حتى من انعكاس وجهها، عامان والسهر يغلب عليها أحياناً فلا تجد النوم، والنوم يغلب عليها أحياناً أخرى فكأنها ميتة؛ فلا حركة في جسدها الذي أرداه الشوق، فانتهت سلطلتها عليه وأصبح لا يطيعها! ورغم ذلك هي ممتنة لك!

عامان وسلواها في بعدك عنها؛ هما قطعتين منك: صغيرة تركتها وهي تحاول أن تتعلم (ألف، باء)، فإذا بها الآن تقرأ من الكتب، وتنطق حروفاً وأرقاماً من لغة أخرى.

عامان وهي تموت بك في كل يوم ألف مرة، وتُبعث بصوتك في كل مرة، وما سخطت عليك ولا اتهمتك في هذا أي مرة، كابدت يا فتى ما لا تقوى على مكابدته الجبال؛ فكانت راسية وما انهارت، ولا استكانت، وما لفظت الصبر وإن طال، وما استهانت بالأمل وإن ضعُف، فاكتفت منه بما يوحي لها بأنك لها في النهاية، كما كنت لها في البداية، عامان وهي تجثو في كل ليلة على ركبتيها، وترفع كفيها نحو السماء.

تستنجد من بعدك بربها، تهمل عينيها فتغرق وجنتيها، تنقطع أنفاسها في الدعاء، يتردد صوت شهقاتها في غرفتها، تطلب من ربها رحمتها بك، عامان وهي تسافر في أدغال نفسها الموحشة من دونك، تطارد ذكرى منك، تفتش في حشاها عنك، تقصص أثرك على جدار قلبها، تتحسس روحها علها تجد فيها مسا منك، وما تجد شيئاً، ورغم ذلك ما نفضت يدها منك، وما زالت ممتنة لك!

عامان وسلواها في بعدك عنها؛ هما قطعتين منك: صغيرة تركتها وهي تحاول أن تتعلم (ألف، باء)، فإذا بها الآن تقرأ من الكتب، وتنطق حروفاً وأرقاماً من لغة أخرى، وتناظرها في النطق الصحيح للحروف، وتكويها بأسئلة معقدة عنك، وصغير تركته وهو يحاول أن يحبو؛ فإذا به الآن يملأ الدنيا ضجيجاً، ويركض في الأرجاء بلا توقف، وأصبح لسانه فصحياً، بعدما كنت تستجديه لينطق كلمة واحدة (بابا)، لكنه يؤلمها حين تسأله هي عن فلان خاله فيقول: بابا، أو فلان عمه فيقول:بابا، وكأنه لا يريد إلا زيادة آلامها بما لا يعقل، وحين تشكوه إليك؛ توهمها بأن ذلك؛ حب منه لعمه أو خاله، وأنت تعلم أن الصغير يبحث فيهما عنك، ورغم هذا وذاك؛ هي مازالت ممتنة لك.

عامان وهي تسألك متى تكون عودتك إليها؟ فتشكو إليها ضيق الحال الذي ألم بك، وقسوة الأيام وخستها معك، وتعدها بأنك حينما يتيسر لك ما يكفل العودة؛ ستعود من فورك، فتزيد آلامها بآلامك، وتسكب على وجعها ماء النار لتتفجر آلامها أكثر، ورغم ذلك تبتسم لك وتضاحكك، وتدعو لك، ولا تدعك حتى تدمع عيناك ضحكاً، وتستبدل دعائها لنفسها بدعائها لك، فهي تتحمل ما بها وإن زاد عليها، ولا تتحمل ما بك وإن كان قليلاً، فأنت بهذا في نظرها؛ تتحمل ما لا يطيقه غيرك، وعليها أن تكون دائماً ممتنة لك.

عامان وهي تسافر في أدغال نفسها الموحشة من دونك، تطارد ذكرى منك، تفتش في حشاها عنك، تقصص أثرك على جدار قلبها، تتحسس روحها علها تجد فيها مسا منك.

عامان وجراحها لا تشفى، وآلامها تزيد، والشوق قتال، وعمر الشابة ينقضي في اللاشيء، وصويحباتها يحاكينها ويسألنها عنك، ويتساءلن ما منعك عنها كل هذا الوقت؟ وأنت تعلم ما يحملن لها من خبيئة في سؤالهن، فهن لا يخلين من مكر فيما سألن، فما كان منها إلا أن توجد لك ألف عذر وعذر، وتنهاهن عن المكر بك، أو أن يفكرن- أو يخطر ببالهن- أن ما منعك عنها حاجة في نفسك منها، إنما هي الشدائد – التي تمنع الحبيب عن حبيبه – هي التي حبستك ومنعتك عنها. ورغم قولهن، وإدراكها لمكرهن وما يقصدن؛ إلا أنها مازالت ممتنة لك.

عامان وهي… والآن أنت تستعد للعودة إليها، لكن ما الذي يمكنك فعله أو أخذه لها كتعويض؟ ما الذي تملكه لتمنحها إياه وفاء لجميلها في صبرها وفي طفليك؟! عليك أن تفكر في الأمر بجدية. لأن هناك ظلم وقع عليها، وعليك أن تعدل. لكن كيف يعدل من كان هو الخصم والحكم؟، الآن هي تنتظر ولن تطلب كعادتها وعليك أن لا تستغل هذا لصالحك؛ وإلا كان منك هذا ؛ ظلماً فوق ظلم، وجوراً فوق جور. لا عليك من هذا كله، وأجبني على سؤال واحد: هل بإمكانك أن تكون ممتناً لها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.