شعار قسم مدونات

هل نحن بحاجة لعودة صلاح الدّين أم صلاح الإنسان؟

blogs - ناس في الشارع
أعتقد أننا لسنا في حاجة اليوم إلى صلاح الدين كي يحرّر بيت المقدس، بقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى صلاح رأينا وتحرير عقولنا، نحن في حاجة لمن يفتح الكتاب قبل التفكير في فتح البلاد.إن تاريخ الإنسانية يخضع لنواميس الكون، ونواميس الكون، تدفع عجلة الحضارة إلى الدوران، فتصير دولا بين الناس، ولا أعتقد أن الركود ينتشل الأمم من القاع، ويصعد بها نحو القمة، فإذا طال التدحرج خلال الدوران فمن المتوقع أن يتأخر الوصول، وقد لا يكون إذا لزمه الركود؛ لأن التاريخ لا ينتظر أحدا.
مطلوب منا أفرادا وجماعات، إعادة صياغة التاريخ، وفقا لمعطيات الجغرافيا، كي تنجح هندسة الإنسان. حينما اهتممنا بالتكفير، قلّ مردود التفكير، لأن العقل الذي أبدع على مدار المراحل الإنسانية، كان طليقا يتمتع بكامل حريته، ولم تخضعه الشرائع السابقة، ولا القوانين الوضعية ، كيف ذلك وهو مصدرها، أو واضعها، ثم المتمرد عليها.

فلما يأتي الإنسان اليوم ليحجر على الإنسان، فكأنما يريد للإنسانية أن تندثر، ولا فرق بين تغييب العقل عمدا أو قهرا، بل إن الذي يعطل عقل الإنسان عن التفكير قهرا، يفوق جرمه من يتناول مسكرا أو مخدرا يغيب به عقله، الذي يفترض أن يستخدمه في التفكير، لأن متعاطي المسكرات والمخدرات، قد لا يلحق ضررا إلا بنفسه، وحينما يخرج من أزمته، وتكون له الإرادة القوية على تجاوز المحن، ينهض من كبوته ويولد من جديد، أما الذي يقتل عقلا قهرا وتكفيرا، أو جهلا ، فقد أهلك الإنسانية جميعا، كمن يتعامل مع نص ديني، في حدود ظاهره، وعقله مغيب، فيَهلك ويُهلك.

كيف يكون هذا مآل السعداء، من توفرت لهم جميع وسائل العيش المترف، فماذا عنا نحن في بلادنا الشرقية؟! رغم كل مآسينا، وظروفنا، وقهرنا، وضغوطات حياتنا اليومية، ندرس، ونتخرج، ونعمل، ونفرح ونضحك!

لا يتصور عاقل شروقا اعتياديا من موضع الغروب، فعلينا تغيير المكان الذي سقطنا فيه قائمين، كي نقوم واقفين صوب وجهة تدعونا إليها أصوات الإنسانية التي تصرخ بداخلنا. إن المنتصرين اليوم، منهزمين؛ لأنهم وفروا كل شيء للإنسان، وأهملوا الإنسان، فكل الذين أبدعوا في اكتشافات، وفي سن قوانين، وتركيب آلالات، والصعود بشامخات، قدموا للإنسان الآلي خدمات جليلة، لكنهم دمروا الإنسان الحقيقي، الأصلي غير المقلد، ولم يصلوا إلى تحقيق سعادته ولو مؤقتا.

كنت في زيارة لدوقية لكسمبورغ، التي تعد إحدى أقوى دول "اتحاد البنلوكس "Benelux"، وقبل مغادرتي وأنا بمحطة القطار رأيت أنني وصلت مبكرا، قبل موعد رحلتي بساعتين أو أكثر، فأحببت أن أكمل آخر شارعين لم أزرهما كانا بمحاذاة المحطة، أحدهما كان لمحلات ملابس "الستربتيز" والقطع والمقتنيات الجنسية البلاستيكيكة، فقلت في نفسي لقد وفروا كل شيء لإسعاد شعوبهم كي لا يشعروا بالملل ولا بالوحدة، وما إن انتقلت إلى الشارع الثاني حتى قابلتني بناية ضخمة، مكتوب عليها باللغتين
Le luxembourgeois  بالفرنسية مكتوب: "مصحة نفسية"، فلما دققت النظر؛ بدا لي من خلال نوافذ غرفها، الكآبة والوحشة والظلمة، فلم أستطع تحمل المشهد ولم أتمالك دموعي وأنا مستند بكلتا يدي على كفيَّ وصدري وجزء من وجهي ملتصق بأعمدة حديدة لسور حديقة مقابلة للمصحة.

ثم حدثت نفسي ثانية ودموعي لم تتوقف وقتها تلقائيا دون إرادتي: أهذه هي نهاية السعادة؟ كيف يكون هذا مآل السعداء، من توفرت لهم جميع وسائل العيش المترف، فماذا عنا نحن في بلادنا الشرقية؟! رغم كل مآسينا، وظروفنا، وقهرنا، وضغوطات حياتنا اليومية، ندرس، ونتخرج، ونعمل، ونفرح ونضحك، ونتزوج، ونرقص، ونغني، ونبتهج، وننجب آخر السنة، فما بال هؤلاء؟! من يقنعني أنهم حقا تعساء، أشقياء؟! كيف لمن حققوا كل شيء للإنسان لم يستطيعوا إسعاده؟!

شاهدت منذ شهور، روبورتاجا عن اختراع الإنسان الآلي، ومخاوف من حلول أزمات بطالة بسبب تعويضه للإنسان، تساءلت في قرارة نفسي، هل سيأتي يوم وتصير المخاوف الإنسانية أكبر من المخاوف الاقتصادية.

فالتقطت صورة للمصحة النفسية، كي أضيفها إلى (ريبيرتوار) الرحلة، ثم أدركت أن هذا هو ملخص أو عنوان رحلة لكسومبورغ التي أعجبت كثيرا بجامعتها ومكتبتها والمكان الذي أقمت فيه وتفاصيلها وجسورها التي تشبه كثيرا جسور مدينة قسنطينة التي عشت فيها لما كنت بالجزائر، لكن روحها بعيد جدا عن روح قسنطينة.

فالإنسان الذي أصبح لا يتعامل إلا مع الآلة، أوشك أن يكون هلاكه على يد الآلة، فبعدما شاهدت منذ شهور، روبورتاجا عن اختراع الإنسان الآلي الجديد، ومخاوف الرأي العام من حلول أزمات بطالة بسبب تعويضه للإنسان، تساءلت في قرارة نفسي، هل سيأتي يوم وتصير المخاوف الإنسانية أكبر من المخاوف الاقتصادية والمادية البحتة أو لعلها تتحقق بتعميم الإنسان الآلي، ليحل محل الإنسان، في البيت وفي جميع مناحي الحياة الإنسانية بشتى متطلباتها، الفطرية والغريزية، ثم تبادر إلى ذهني، الإنسان المطاط الذي صدرت منه الصين كميات هائلة إلى أسواقنا منذ شهور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.