فلما يأتي الإنسان اليوم ليحجر على الإنسان، فكأنما يريد للإنسانية أن تندثر، ولا فرق بين تغييب العقل عمدا أو قهرا، بل إن الذي يعطل عقل الإنسان عن التفكير قهرا، يفوق جرمه من يتناول مسكرا أو مخدرا يغيب به عقله، الذي يفترض أن يستخدمه في التفكير، لأن متعاطي المسكرات والمخدرات، قد لا يلحق ضررا إلا بنفسه، وحينما يخرج من أزمته، وتكون له الإرادة القوية على تجاوز المحن، ينهض من كبوته ويولد من جديد، أما الذي يقتل عقلا قهرا وتكفيرا، أو جهلا ، فقد أهلك الإنسانية جميعا، كمن يتعامل مع نص ديني، في حدود ظاهره، وعقله مغيب، فيَهلك ويُهلك.
كيف يكون هذا مآل السعداء، من توفرت لهم جميع وسائل العيش المترف، فماذا عنا نحن في بلادنا الشرقية؟! رغم كل مآسينا، وظروفنا، وقهرنا، وضغوطات حياتنا اليومية، ندرس، ونتخرج، ونعمل، ونفرح ونضحك! |
لا يتصور عاقل شروقا اعتياديا من موضع الغروب، فعلينا تغيير المكان الذي سقطنا فيه قائمين، كي نقوم واقفين صوب وجهة تدعونا إليها أصوات الإنسانية التي تصرخ بداخلنا. إن المنتصرين اليوم، منهزمين؛ لأنهم وفروا كل شيء للإنسان، وأهملوا الإنسان، فكل الذين أبدعوا في اكتشافات، وفي سن قوانين، وتركيب آلالات، والصعود بشامخات، قدموا للإنسان الآلي خدمات جليلة، لكنهم دمروا الإنسان الحقيقي، الأصلي غير المقلد، ولم يصلوا إلى تحقيق سعادته ولو مؤقتا.
كنت في زيارة لدوقية لكسمبورغ، التي تعد إحدى أقوى دول "اتحاد البنلوكس "Benelux"، وقبل مغادرتي وأنا بمحطة القطار رأيت أنني وصلت مبكرا، قبل موعد رحلتي بساعتين أو أكثر، فأحببت أن أكمل آخر شارعين لم أزرهما كانا بمحاذاة المحطة، أحدهما كان لمحلات ملابس "الستربتيز" والقطع والمقتنيات الجنسية البلاستيكيكة، فقلت في نفسي لقد وفروا كل شيء لإسعاد شعوبهم كي لا يشعروا بالملل ولا بالوحدة، وما إن انتقلت إلى الشارع الثاني حتى قابلتني بناية ضخمة، مكتوب عليها باللغتين
Le luxembourgeois بالفرنسية مكتوب: "مصحة نفسية"، فلما دققت النظر؛ بدا لي من خلال نوافذ غرفها، الكآبة والوحشة والظلمة، فلم أستطع تحمل المشهد ولم أتمالك دموعي وأنا مستند بكلتا يدي على كفيَّ وصدري وجزء من وجهي ملتصق بأعمدة حديدة لسور حديقة مقابلة للمصحة.
ثم حدثت نفسي ثانية ودموعي لم تتوقف وقتها تلقائيا دون إرادتي: أهذه هي نهاية السعادة؟ كيف يكون هذا مآل السعداء، من توفرت لهم جميع وسائل العيش المترف، فماذا عنا نحن في بلادنا الشرقية؟! رغم كل مآسينا، وظروفنا، وقهرنا، وضغوطات حياتنا اليومية، ندرس، ونتخرج، ونعمل، ونفرح ونضحك، ونتزوج، ونرقص، ونغني، ونبتهج، وننجب آخر السنة، فما بال هؤلاء؟! من يقنعني أنهم حقا تعساء، أشقياء؟! كيف لمن حققوا كل شيء للإنسان لم يستطيعوا إسعاده؟!
شاهدت منذ شهور، روبورتاجا عن اختراع الإنسان الآلي، ومخاوف من حلول أزمات بطالة بسبب تعويضه للإنسان، تساءلت في قرارة نفسي، هل سيأتي يوم وتصير المخاوف الإنسانية أكبر من المخاوف الاقتصادية. |
فالتقطت صورة للمصحة النفسية، كي أضيفها إلى (ريبيرتوار) الرحلة، ثم أدركت أن هذا هو ملخص أو عنوان رحلة لكسومبورغ التي أعجبت كثيرا بجامعتها ومكتبتها والمكان الذي أقمت فيه وتفاصيلها وجسورها التي تشبه كثيرا جسور مدينة قسنطينة التي عشت فيها لما كنت بالجزائر، لكن روحها بعيد جدا عن روح قسنطينة.
فالإنسان الذي أصبح لا يتعامل إلا مع الآلة، أوشك أن يكون هلاكه على يد الآلة، فبعدما شاهدت منذ شهور، روبورتاجا عن اختراع الإنسان الآلي الجديد، ومخاوف الرأي العام من حلول أزمات بطالة بسبب تعويضه للإنسان، تساءلت في قرارة نفسي، هل سيأتي يوم وتصير المخاوف الإنسانية أكبر من المخاوف الاقتصادية والمادية البحتة أو لعلها تتحقق بتعميم الإنسان الآلي، ليحل محل الإنسان، في البيت وفي جميع مناحي الحياة الإنسانية بشتى متطلباتها، الفطرية والغريزية، ثم تبادر إلى ذهني، الإنسان المطاط الذي صدرت منه الصين كميات هائلة إلى أسواقنا منذ شهور.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.