شعار قسم مدونات

هل قامت القيامة؟

blogs - نازحون من سوريا
جاء في الحديث الشريف: أنَّ النَّاس يوم المحشر عندما يصلِون إلى حالة من الضيق، وقد نفد صبرهم، واشتد كربهم، فيدورون على الأنبياء من نبيٍّ إلى آخر بحثاً عمن يشفع لهم لبدء الحساب عسى أن يزول ما بهم من شدة وكرب، ولكن كلُّ نبيٍّ يعتذر في ذلك الوقت بعذر يخصُّه ويقول: نفسي نفسي.

أقول: فهل وصلنا يا سادة في أيَّامنا هذه إلى مثل تلك الحالة وقد قامت قيامتنا؟ حقاً لقد سمعنا في أيامنا هذه من يقول نفسي نفسي. إن لم يكن بلسان قالِه فبلسان حالِه، وذلك بسبب ما ألمَّ بنا نحن السوريين من مصائب وشدائد وبلايا، ولا شكًّ أن ما أصابنا عظيم وما حلَّ بنا أمرٌ جَللٌ حتى إنَّه ليصدق فيه قول القائل:

صُبَّتْ عَلَيَّ مصائبٌ لو أنَّها ::::::: صُبَّتْ عَلَى الأيَّامِ عُدْنَ لَيالِيَا
مَاذَا سَأَذْكُرُ مِنْ جَلِيلِ مَصَائِبيْ :: قَدْ عَزَّ أنْ تَحكيْ وتَرْصُدَ مَا بِيَا

نعم يا سادة: ما حلَّ بنا أمرٌ عظيم، وما أصابنا يعجز الوصف عن بيانِه، ولكنِّي أرى والله أعلم أن أعظم منه ما افتقدناه من روح سادتْ فيما بيننا في بداية الثورة السورية، وامتدَّت لسنوات تلتها، تلك الروح التي كان فيها التعاونٍ والتكافلٍ والشعورٍ بالآخر، حتَّى أحسَسْنا أنَّنا أصبحنا كالجسد الواحد إذا أصاب عضواً منَّا مكروهٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وهذا ليس بين القريب والقريب فحسب، بل بين القريب والبعيد، وبين أبناء الحيِّ والحيِّ وبين أبناء القرية والقرية الأخرى.
 

نطالبك بما تقدر عليه من المواساة ولو بشقِّ تمرةٍ، ونطالبك أن لا تقطع الصلَة مع تعرفهم وأن لا تتنكَّر لأصدقائك القدامى ولا لأهل بلدتك.

وممَّا أذكر من ذلك قصصاً كثيرة شهدتُ بعضها وسمعت بعضها، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أنَّه في عام (2011) تمَّ حصار حيِّ باب السِّباع وهو من أحياء مدينة حمص لمدَّة ثلاثة أيامٍ، وكان الجيش قد منع الدخول والخروج إلى الحيِّ، وكذلك منع إدخال المواد الغذائية، ثمَّ بعد ذلك انتهى ذلك التضييق وفُك الطوق الأمني عن الحي، وإذ بالمساعدات تأتي إلى الحيِّ من كلِّ حَدَبٍ وصَوبٍ من الأحياء المجاورة، حتَّى امتلأ الحيُّ بمواد متنوعة ومنها موادُ لا أهمية لها، ولكنّ قوات الأمن لم تمرِّر الأمر هكذا، فقد اعتقلوا عدداً من الناس مع سياراتهم بسبب نقلهم لتلك المواد.

و أذكر حادثةً أخرى كان الأمر فيها بالعكس؛ فقد حُوصر حيُّ الخالدية لمدة يومين أو ثلاثة وتوقَّفت الأفران عندهم وأصبح لديهم حاجة لمادة الخبز، فهبَّ عددٌ من أبناء حيِّ باب السباع لجمع كمية من الخبز لإرسالها إلى الخالدية وكان لا يوجد عندنا كميَّة من الخبز كافية في ذلك الوقت، فأخذنا نبحث عن طريقة يمكن أن نحصل فيها على الكميَّة المطلوبة، ومما أذكرُه أن قال شابٌ شهمٌ من جيراننا: أنا استطيع أن أحضر عدداً من ربطات الخبز -وهو تعبير معروف عند السورين فكان الخبز يُباع عندنا بالربطة -من حيٍّ قريب فيه معمل للخبز السياحي يعمل ليلاً.

وفعلاً ركب دراجة كهربائية كانت قد انتشرت في ذلك الوقت كوسيلة نقل عند السوريين وهي سهلة الحركة تغنيهم عن السيارات وغيرها من الوسائل التي كان يصعب على عموم الناس أن يحصِّلوها لغلاء أسعارها، المهمُّ عندما ذهب وأراد أن يقطع الشارع الذي كان مرصوداً بما يُسمى قنَّاص القلعة إلى الحيِّ المقابل، وإذ بنا نسمع صوت إطلاق نار حُبست على إثرِه أنفاسنا، وساد الصمت فيما بيننا… و بعد وقت قصير يعود الشاب إلينا وهو ممتقع اللون شاحب الوجه يكاد ينعقد لسانه من شدة الخوف، ليقول لنا: لولا لطف الله به ووجود رجل كان بقربِه قد سَحب الدراجة به إلى الخلف لقضى في تلك الحادثة.

ولما أصبحنا طيَّر أحد الإخوة لي خبراً أنَّ كمية من الخبز هي على الرصيف أمام العمارة التي كنا نسكنها، وكان من خبرِه أن رجلاً من أثرياء الحيِّ قد علم مانحن فيه ليلاً، فاشترى كمية من الخبز ويريد منَّا أن نرسلها إلى حي الخالدية، وأذكر أنَّه جاءنا خبرٌ بعد ذلك أنَّ الأمور قد عادت إلى طبيعتها في حيِّ الخالدية، فما كان من هذا الأخ إلَّا أن طلب أن يُوزَّع الخبز على المحتاجين في حيِّنا وفعلا ً حصل ما أراد… وفيما بعد- سبحان الله – وصلني خبرٌ أنَّ هذا الأخ قد اعتُقل بسبب هذا الأمر وكانت تُهمته أنَّه يوزِّع طعاماً للإرهابيين.

هذه بعض القصص التي عرفتها في تلك الأيام، ولو أتيح لغيري أن يكتب مثل ما كتبت لسمعنا بعشرات القصص الأخرى مما يماثل ما ذكرت أو يزيد. فهل يا تري تعود لنا تلك الروح؟ أو نقول سقى الله تلك الأيام ونترحم عليها كما نترحم على الأموات والسلام؟ أقول: على رسلكم يا سادة فنحن ما زلنا نعيش في الحياة الدنيا ولم تقُم القيامة بعد، وإنه مهما اشتدَّ الكرب وعظُمت الخطوبُ وساءت الأحوال، فإنَّنا نحن البشر نستطيع بما أعطانا الله من قدرات وما خصنا به ميزات أن نتكيَّف معها كما يمكننا أن نتغلب عليها ونتجاوزها وذلك إذا تعاونّا على حملها وحلها.

مهما اشتدَّ الكرب وعظُمت الخطوبُ وساءت الأحوال، فإنَّنا نحن البشر نستطيع بما أعطانا الله من قدرات وما خصنا به ميزات أن نتكيَّف معها كما يمكننا أن نتغلب عليها.

و هنا أخي قد لا نطالبك أن تصل إلى درجة ما صنعَه أهل المدينة الأنصار مع أهل مكة المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ من مقاسمتهم للدور والأموال وغيرها؛ ممَّا يضيق المقام عن شرحِه هنا حتَّى وصفهم ربهم بقولِه (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9) وقد لا نطالبك أيضاً أن تصل إلى درجة ما كان يفعلُه الأشعريون إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم في المدينة فكانوا يجمعون ما كان عندهم في ثوب واحد ثمَّ يقتسمونه في إناء واحد بينهم بالسويَّة.

ولكننا نطالبك بما تقدر عليه من المواساة ولو بشقِّ تمرةٍ، ونطالبك أن لا تقطع الصلَة مع تعرفهم وأن لا تتنكَّر لأصدقائك القدامى ولا لأهل بلدتك، كما نطالبك أن تردَّ على اتِّصالات من يتصل بك، وأن تجيب على رسائل من يراسلك، و أن لا تتأفَّف من حمل إخوانك وأخواتك، فضلاً على أن تصل من قطعك، وأن لا تُعرض عمَّن قصدك. 

وختاماً لا مانع أخي أن تهتم بنفسك وبمن تعول، ولكن في الوقت نفسه يمكنك أيضاً أن تمسح على رأس يتيم، وتستطيع أن تغيث ملهوف، وتقدر أن تفرِّج كربة مكروبٍ، كما يمكنك أن تخرج زكاة مالك لغير أقاربك وتكفي أقاربك من غيرالزكاة، فطعام الواحد يكفي الإثنين وطعام الإثنين يكفي الأربعة وأن تبذل الفضل خيرٌ لك وأن تمسكه شرٌّ لك، واعلم أنهُ من فرج عن عبد كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.

وبعد كل ذلك إن لم تستطع فعل شيءٍ من كلِّ ذكر لعدم قدرتك حقيقةً، فليكن ردُّك بكلمة طيِّبة وقول حسن وليسع الناس منك بسط الوجه و حسن الخلق: لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ ::: فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ، ودمتم طيبن سالمين وعسى أن يُقال لكم يوم القيامة: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.