شعار قسم مدونات

كجبلٍ في دمشقَ.. وأفقُ بحرٍ في الدوحة

blogs الدوحة

وقفَ أمامَ بحرِها يَرْنو ببصره نحوَ الأفق، ليرى في امتداده ما يكادُ يتسعُ لطموحاته وأحلامه.. وقفَ هنالكَ قوياً كجبلِ مدينته الأولى الذي خَلَّفَه مُتربِّعاً فوق ترابِها، ممتلئاً بعبيرِ زهورها، مُرتوياً بنقيِّ ماءِها.. خمسٌ من السنين مرت، وما زالت تهيبُ في نفسِه قدرةُ البحرِ على حمل مراكبه المتمايلةِ في دلالٍ على مهلٍ فوق زرقته، تُثقلُه بهموم من فيها، وبدلاً من أن يبتلعَها في ظلماتِ لُجَّتِه، تجدْهُ يرفعها لتُسايرَ انعكاسَ خطوط الشمسِ في تمايُلِها.. وكأنَّ البحر بذلك يروي له قصةً عن هذهِ المدينةِ وعن حال من فيها، يثقلونها بهمومهم فترفعهم بِرفعَتها، ومن ثمَّ هم بدورهم يُعْلون بأفعالهم اسمها وكلمتها..

ورغم مرور الأيام، إلا أنَّه لا زال يجدُ في اتساعِ هذا البحر ما يحوذُ انتباهَه، إذْ لم تعرف مدينتُه الأولى البحر أبداً، ولمّا يَعْتدْ هوَ قربَه بعدُ.. إلّا أنّه صار يحاولُ أن يتخذَ من البحرِ مُؤنساً، يَضيعُ في هدوءِه هارِباً من إيقاع الحياة المتسارع في المدينة الحديثة ومن صخب شوارعها، تاركاً نَسماتِ بحرها تداعبُ سوادَ شَعره، مسترقاً السمعَ لأصواتِ أمواجه المتعاقبة على استحياء.. وما إن علِمتْ أمواجُ البحرِ بإنصاتِه لها، حتى صارتْ تهمسُ في أذنيه: أنْ ألقِ إليَّ بفؤادِك أحفظْهُ بين النفيس من أحجاري، وأصُنْه بين لؤلؤي ومرجاني..

إلا أنّه وكعادَتِه، يعودُ مُقبلاً نحوَ المدينة وإيقاع الحياة المتسارع فيها من جديد، ليعزف لها جزأهُ من المقطوعة الموسيقية، متجاهلاً همساتِ بحرها، محتفظاً بفؤاده بين أضلعه، ولا زال قوياً كجبلٍ قديمٍ عرفه ذاتَ يومٍ في دمشقَ، وأحلامه يكاد لا يتسع لها أفقُ بحرٍ في الدوحة..

تجدَه يزدادُ يقيناً أنَّه لا يسكن المدنَ التي يستوطن أرضَها، بل إنّما هي التي تسكنُهُ أبداً، وتستوطن فيه ذكرياتُها، وأحلامُها، وليالِيها.. ويدركُ أنّ من أحبَّ من شخوصِها هم سرُّ جمالها، وأنهُ يجدها حيث يجدهم، فهي تكونُ بهم ولا تكونُ بذاتها

تمرُّ عليهِ هنا الأيامُ بحلوِها ومرِّها، وكلُّ يومٍ له وقعهُ وأثرهُ على نفسه، وكلُّ يومٍ يحمل بين دقائق ساعاته قصةَ فشلٍ أو قصة نجاح، وتستمرُ الأيام بمرورها، فلا تقف عندَ أحد، ولا تقف من أجلِ أيِّ أحد.. وبين زحمةِ الأيامِ بسريعها وبطيئها، يجدُ نفسه يضيعُ في زحمةٍ أخرى من الوجوه العابرة الباقية في آنٍ معاً.. كلُّ يومٍ عشرات من الوجوه، وكلُّ وجهٍ يحمل مزيجاً من الألمِ والأمل، ومن اليأس والطموح، وكلُّ وجهٍ تحكي ملامحُه قصةً وحكاية، وكلُّ حكايةٍ يمكن أن تبدأ من أيِّ مدن العالم لا من هنا فحسب، وكلّهم يكتب فصلاً خاصاً من حكايته تحت عنوان مشترك "الدوحة"..

وبين زحمة الوجوه العابرة، يبحث عن وجوه تشبه تلك التي عرفها سابقاً في فصلٍ آخر من حكايته، ويصادف وجوهاً أخرى ما تلبث أن تصير قديمة له قدم التاريخ، يألف قربها، ويتشاطرُ معها كتابة فصلهم المشترك من حكايتهم التي يرغبُ ألا تنتهي.. في الحقيقة لا تغادرهُ دمشقُ وجبلُها -قاسيون- منذ غادرها، ولكنها ها هي الدوحة تَسْكنُه وبحرُها بعدما سكنَها، رغم أنّه لم يعلم أنّه سيألَفُها وشوارعها بهذه السرعة..

لتجدَه بذلك يزدادُ يقيناً أنَّه لا يسكن المدنَ التي يستوطن أرضَها، بل إنّما هي التي تسكنُهُ أبداً، وتستوطن فيه ذكرياتُها، وأحلامُها، وليالِيها.. ويدركُ أنّ من أحبَّ من شخوصِها هم سرُّ جمالها، وأنهُ يجدها حيث يجدهم، فهي تكونُ بهم ولا تكونُ بذاتها.. وأحبَّ أنَّ ذلك الشعور الطفوليّ بالتعلقِّ بكلِّ من يحبُّ لمّا يغادرُه بعدُ، فتعلقَ اليوم بها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.