شعار قسم مدونات

صراعٌ بين الذات والمجتمع

blogs المجتمع

لماذا نفعل ما يريد المجتمع منا أن نفعله؟! ولا نفعل ما نريد نحن أن نفعله؟!
عند رغبتنا في القيام بعملٍ ما، غالبًا ما نُفكّر في ردة فعل المجتمع والناس من حولنا، وما إذا كانوا سيتقبلونه أم لا، وفي مدى الثناء والمديح الذي سنتلقاه إذا فعلنا ما يُمليه المجتمع علينا، وفي الجهة المقابلة سنفكر في مدى اللوم والعتاب والذم إذا سرنا بعكس خط سير مجتمعنا، فحينئذٍ سنختار ما يجلب لنا المدح والثناء، ولن نختار ما يجلب لنا اللوم والعتاب، وعندها نكون قد وقعنا في الفخ، فنحن لم نفكر فيما نريده ولكن فكرنا بما يريده المجتمع منا.

غالبًا ما يبدأ الصراع عند مفترقات الطرق، وأُولى هذه المفترقات التي ستواجهنا هي حين نصل إلى المرحلة الثانوية، التي عندها علينا أن نختار فيما إذا كنا نريد أن نذهب إلى الفرع العلمي أو الأدبي أو أي فرعٍ آخر، أو حتى إذا كنا لا نريد أن نكمل الدراسة، وفي ذلك الحين سنفكر في الخيارات المعروضة أمامنا غالبًا ليس من جهة ما نريده ونرغبه، بل من جهة ما يريده المجتمع، وهذا يعني أننا سنختار الفرع العلمي، لا سيما إذا كنا أصحاب معدلٍ مرتفعٍ!

وعندما نصل إلى السنة الحرجة ألا وهي سنة الثانوية العامة، سوف يبدأ الخوف يتزايد عندنا بالتدريج كلّما اقتربنا من الامتحانات، ولكن ما سبب هذا الخوف؟ سببه ببساطةٍ المجتمع، فأنت تعرف أن المجتمع والناس من حولك يترقبون ماذا ستفعل، وماذا ستكون نتيجتك، وهل ستحصل على معدلٍ مرتفعٍ يجعلهم يحتفلون بك ويمدحونك، أم أنك ستفشل وترسب وتحصل على معدلٍ منخفضٍ يجعل الناس يلومونك أو قد ينظرون لك بنظرةٍ دونيةٍ، أو يبدأ أقرانك والحسّاد بالشماتة بك، كل هذا بل أكثر ستتخيله إذا ما أردت أن تدرس من أجل امتحاناتك، وهذا سيخلق لك خوفًا ورعبًا، وتوترًا وقلقًا كبيرًا وقد يؤدي هذا الخوف إلى فشلك. 

يستمر المجتمع في التأثير على طريقة تعاطينا مع مُجريات الحياة وأحداثها المختلفة، وكيف هي الطريقة التي نعيش بها، بدءًا من الأمور الرئيسية، وانتهاءًا بالتفاصيل الدقيقة في حياتنا

وبعد إنهائك للثانوية العامة من الفرع العلمي بمعدلٍ مرتفعٍ يأتي صراعٌ جديدٌ في اختيارك للتخصص الجامعي، وتأتي أيضًا متلازمة الطب والهندسة عند المجتمع، وغالبًا ما سترضخ لما يُمليه المجتمع عليك من جديد، وستدخل تخصصًا على رغبة من حولك، وربما تدرك أنك كنت مخطئًا في الاختيار خلال سنوات دراستك الجامعية، وهنا ستكون أمام أمرين أحلاهما مُر: فإما أن تجبر نفسك على إكمال تخصصك مع أنك لا تحبه ولا تريده، وإما أن تقوم بتغيير تخصصك وهذا سيؤخر مسيرتك الدراسية، وفي الحقيقة مهما كان اختيارك فأنت الخاسر الوحيد، وصدقني لن يقدم أحدٌ لك العزاء!!

كان لي صديقٌ في سنة الثانوية العامة دائمًا ما كان يقول لنا أنه إن حصل على معدل يؤهله لدخول كلية الطب فإنه لن يدخلها؛ لأن الطب دراسته طويلة، بالإضافة إلى رغبته في دخول الهندسة، وكان دائمًا ما يؤكد مدى استحالة دخوله للطب، لكنني كان لدي يقينٌ في داخلي أنه في حال حصوله على معدلٍ يؤهله لدخول كلية الطب فإنه سيدخلها-ليس لأنه كاذب-وإنما ليقيني بأنه سُرعان ما سينجرف تحت سطوة المجتمع وضغطه عليه، وفي الحقيقية هذا الذي حصل.

لقد ضربنا أمثلةً حول تأثير المجتمع في قراراتنا في اختيار الفرع في المرحلة الثانوية، واختيار التخصص في المرحلة الجامعية، ولكنّ تأثير المجتمع علينا لا يقتصر على هذه الأمور فقط، بل يتدخل أيضًا في جُلّ أحداث حياتنا، فعلى سبيل المثال لو أنك أردت الزواج في سنٍ مبكرةٍ نسبيًا (فوق ١٨) سوف تجد رفضًا من المجتمع لهذه الفكرة، وعلى الجهة المقابلة لو أنك كنت فوق الثلاثين من العمر ولا تريد أن تتزوج ستجد ضغطًا من المجتمع عليك لكي تتزوج، وفي كلتا الحالتين ستستجيب بكل ببساطةٍ لمجتمعك للمرة الألف!! 

ولا يقتصر الأمر على الزواج من عدمه، بل حتى في تفاصيله من حيث كيفية الزواج، وبمن سوف تتزوج، وكم هي المبالغ الكبيرة التي سوف تنفقها في أمورٍ شكليةٍ ليس من أجلك ولا من أجل من ستتزوج بها، بل من أجل المجتمع والناس، ولكي ينظروا إليك بعين الرضى، وإلا فأخبرني بربك ما معنى أن تُنفق في حفل الزفاف مالاً يساوي راتبك لستة أشهرٍ أو تقترضه وتسدده لمدة سنتين!! 

ذلك الكم الهائل من الأمور التي نفعلها من غير قناعةٍ بها؛ مداراةً للرأي المجتمعي العام، ولكي لا يقع علينا اللوم والذم لكوننا سرنا على غير القوانين التي خطها المجتمع

حتى في حياتنا المهنية سيبقى تأثير المجتمع علينا حاضرًا وبقوةٍ، فقد ندخل في وظائف لا نريدها، ولم ندخلها إلا لأن المجتمع ينظر إلى هذه الوظائف نظرة تقدير وإجلال، ولكي يتفاخر بنا الأقرباء والمعارف، قال لي أحدهم: أنا أدرس الهندسة وأنا لا أحبها بتاتًا وما درستها إلا ليفتخر بي أبي أمام المعارف والأقرباء (أنّ ابنه مهندسٌ)، وقال لي آخر أنه يريد دراسة الطب أيضًا لنفس السبب، وكنت أقولُ في نفسي: (تبًا لهذا التفاخر المزيف الذي أنتج لنا موظفين يتذمرون ليلًا نهارًا من وظائفهم).

ويستمر المجتمع في التأثير على طريقة تعاطينا مع مُجريات الحياة وأحداثها المختلفة، وكيف هي الطريقة التي نعيش بها، بدءًا من الأمور الرئيسية، وانتهاءًا بالتفاصيل الدقيقة في حياتنا، وذلك الكم الهائل من الأمور التي نفعلها من غير قناعةٍ بها؛ مداراةً للرأي المجتمعي العام، ولكي لا يقع علينا اللوم والذم لكوننا سرنا على غير القوانين التي خطها المجتمع. 

ولأجل الاختصار يكفي ما ذُكر من الأمثلة ففيها الكفاية، وكما قال ابن مالك: (وَلْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ). لكن ما هي الأسباب الخفية وراء رغبتنا في إرضاء الناس؟ إلى أين سيذهب بنا إرضاء المجتمع في نهاية المطاف؟ كيف نتحرر من أسْر المجتمع لنا ونتخذ قرارتنا الصادقة النابعة من أنفسنا؟ هذا سيكون موضوع الجزء الثاني من هذه التدوينة إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.