شعار قسم مدونات

شهرٌ كريمٌ.. في الماضي والحاضر والمستقبل

blogs هلال

ننتظر ليلاً إعداد السحور، نتناول الفول – وهو الطبق الرئيسي – ثم نشرب الكثير والكثير من الماء حتى قبل آذان الفجر بدقائق قليلة.. اعتدنا الاستيقاظ في الصباح لنذهب إلى منزل الجد والجدة وننتظر مع العائلة ساعات حتى آذان المغرب، نشهد فيها لحظات إعداد الإفطار ونشكو جوعاً كلما وقعت أعيننا أو اشتمّت أنوفنا روائح زكية.. ثم تجمعنا المائدة الممتلئة بمختلف صنوف الطعام مما لذ وطاب.. فكان الصغار يسارعون إلى البدء، أما الكبار فمنهم من تأخر يدعو الله بصوت خافت لا نعرف ما يقوله، كنا نحن الصغار لا ندعو بأي شيء.. حتى أنني لم أفهم لم قد يتريثوا ولا يباشروا الإفطار وقد أعلن المؤذن أنْ هلِّموا إلى ملء البطون؟! ألا ينتظر الدعاء قليلاً حتى نفرغ من الطعام؟.. ماذا يقلق صِغاراً دون الرشد؟ 

لم نعد هؤلاء الأطفال الذين يسرعون إلى الحلوى والشراب البارد بعد الصيام. ولسنا ننتظر عيداً في نهاية الشهر كي نتلقى "العيدية". ولن ينفعنا كثيراً التنزه خارج المنزل وركوب الألعاب. نعلم الآن أن بين يدينا أمرٌ أكبر لم نعهده من قبل، أمانة بين يدينا أن نتحمل قدراً من المسؤولية تجاه ما نحن بصدده. ندرك أن الصيام هو كي نهذب ذواتنا بعد أن كشفت لنا السِنون عجزنا عن تحمل أنفسنا دون عونٍ من الله. ونكفر عما بدر منا، ونرجو ما هو آتٍ وما هو خير وأبقى. 

على أي حال، لسنا نبكي على ما مضى، فتلك مرحلة قد استحققنا بساطة العيش فيها وسهولة الشعور بالسعادة. ولسنا نبكي على حاضرنا – ولا أكذب عليك، إنه حاضر يستحق البكاء – ماذا يفيد التذمر والتشكي و "لطمُ الخدين"؟! كي لا نسيء الفهم ونضع أنفسنا في سجون وهمية داخل عقولنا؛ لم يُفقد من الحياة طعمٌ ولن تذهب سعادتنا. إنما هي الحياة الدنيا؛ ما نكاد نخلص من معركة حتى نجد أنفسنا داخل أخرى.. نحو مزيد من القتال والكفاح..

في هذا الحر الشديد ومع إحاطة المفطرات يزداد الثواب ويزداد الخضوع لأمر الله. تعلوا بنا الهمم، ثم يكرمنا الله في ليله بالقيام والسحور. وإلى الله تُرفع الأعمال.. ولنا أن نحصد الثمار

نحن بتلك الأيام والليالي الغالية.. هذه المرة نحنُ خائفين أكثر من ذي قبل.. قلقين على الكثير مما أضعناه وما أردناه ولم يحدث. لا ندري ماذا تحمل الأيام في طياتها ونحن نعاصر أياماً تصعب فيها المعيشة يوماً بعد يوم، ولا ندري كيف نخرج من بين فكي التنين لنثابر خلف طموحات تسلّحت أدوات الكون لمحاربتها والنيل منّا. تلك المرة قد لا ينعم الكثير ممن طالهم موج الغلاء بذات الرفاهية من أنواع الطعام والشراب والحلوى، أليس من المُفترض أن يجعلنا ذلك أكثر إقبالاً على الطاعة في الشهر الكريم؟ بل أكثر تضرعاً وخشية !

أظن أن مظاهر الفرحة الآن اكتسبت لوناً أكثر نضجاً. تلك المرة سأنتظر آذان الفجر كي يبدأ نهار رمضان.. بلا ضجر أو تعجل. لتمر كل لحظة بما فيها ولتكن كما هي. في هذا الحر الشديد ومع إحاطة المفطرات يزداد الثواب ويزداد الخضوع لأمر الله. تعلوا بنا الهمم، ثم يكرمنا الله في ليله بالقيام والسحور. وإلى الله تُرفع الأعمال.. ولنا أن نحصد الثمار. تلك المرة.. سننتظر بدء الصيام ونتلهف إلى الغوص في العبادات لندرك منها ما يكون زاداً للمسير من بعد انقضاء الشهر الكريم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.