شعار قسم مدونات

حيث تُصنع بالأمومة سيوفاً

blogs - hamas
ما كان عليها التفكير كثيراً قبل أن تتخذ قرارها ذاك فهي ليست كأي أحد أو شيء، ونسبها لا يعود لأي قبيلة أو وطن، تتجلى عندها الكرامةُ على كل معاني الحب أو الحياة أو ما شابه، هي عروسٌ تزينت وجلست أمام المدعوين تنتظر حبيبها لعقد القرآن ولكن الليلة مرت لا هو آتٍ وكل الأخبار تؤكد أن الهروب من قربها كان خياره الأبدي!

كان بإمكانها أن تنزل بصمت وتدفن حياتها خلفه وتختار الهوان كذلك، ولكن أمومتها كانت أكبر منهم جميعاً فتزوجت وأنجبت أجيالاً كاملةً لتعلمه العيش بشرف، وتثبت للعالم أجمع بأن كل الروابط بينهما ما عادت تعنيها شيئاً وأن طريقها سوف تكمله وحدها رغم أنوف كل من استنكر أو هدد أو صمت، فغزةُ هي تلك العروس التي تخلت عن حزنها ومناشدتها للعروبة لتصنع لنفسها منزلاً خاصاً يفتقر لكل الماديات التي نملك ويملك كل العظمة التي فقدناها، فغزة صاحبة النسب والفضل العزة تترك اليوم العرب لاَهُونَ في شؤونهم المتناثرة وتصنع بالأمومةِ سيوفاً.

حتى في أقسى لحظاتهم بين ركام منازلهم تسمع في أذنيك رنين الجملة التي تحميهم بها، لترد لهم طفولتهم التي سرقها الركام "معلش، بنبيها بجيوبنا الفارغة وصدورنا العارية يمّا".

يمر هناك الزمان على غزة وهي لا تزال تنجب أطفالاً، فغزة مع مرور تسعة وستين عاماً على ضياع القطعة الأولى من الوطن ومع أن معظم من شهدوا ذلك رحلوا أو باتت التجاعيد تُخفي ملامح وجوههم، هي لم تهرم أبداً، فالمرأةُ لا تصبح عاقراً ما دامت تنجب شهداءً وأبطالاً، فالأمومةُ هناك هي أن تربي الأطفال كأنصالِ السيوف حادةً وقويةً ولكن كريمة، شريفة، عادلة لا تُشّرع في وجه صديق أو ضيف، تعلمهم أن المقاومة عبادة وأن الوطن هو الحق الذي سُلب بالقوة التي لن يرد إلا بها.

تخبر الأم نص المادة الأولى من دستور العش هناك لطفلها رضيعاً، شيئان يا ولدي في غزة لا يمكن المساومة عليهما، الشرف والوطن عقوبة المساومة على أي منهما الموت علنًا بتهمة البيعة والخيانة وتلك هي الخطيئة التي لا تغفر، ويبقى تعليمها لهم الصلاة في الظلام هناك هو جوهر العيش فلا نور إلا نور الصباح أو ما رحم الله به عباده ليلياً من ضوء السماء، أيامٌ يعيشونها بلا كهرباء وأخرى بلا ماء، التموين والعلاج صعب والخدمات قليلة والحصار خانق، والعيد هناك يمر بارداً جداً لا يحمل أي سعادة لا لباس ولا مال حتى ليترك مجالاً للبحث عنها.

لكنها مع ذلك لا تترك لليأس طريقاً لقلوب أطفالها، جميعهم تعلو وجوهم بسمة الفخر بأنّا صامدون، حتى في أقسى لحظاتهم بين ركام منازلهم تسمع في أذنيك رنين الجملة التي تحميهم بها لترد لهم طفولتهم التي سرقها الركام "معلش، بنبيها بجيوبنا الفارغة وصدورنا العارية يمّا" فتُمحى الدموع وتولد ابتسامة التحدي والإصرار، فماذا سيكون طفل أنثى لا تعشق إلا من يعشق أرضها، والعرس عندها هو الشهادة ليس إلا.

الأمومةُ هناك هي أن تربي الأطفال كأنصالِ السيوف حادةً وقويةً، ولكن كريمة، شريفة، عادلة لا تُشّرع في وجه صديق أو ضيف، تعلمهم أن المقاومة عبادة.

مع كل الدروس والدروس التي تعلمها الأم لأبنائها يومياً متمسكة بالصبر والدعاء، علمتهم أهم شيء وأصعبه، بأن لا يعاشروا الخوف أبداً، حتى وإن كان الموت يتربص بهم، وتأخذ عهداً أمام الله بأن تُخرِجَ تلك السيوف من أغمادها وقت المعركة لتحصد منهم ما زرعته فيهم، أنّ هنا على أرضنا لا مكان للظّالمين.

وعندما يأتي ذلك الوقت ترسلهم وفاءاً لعهدها. وحين تنتهي أصوات الحرب والضرب حولها تخرج تلك الأم لتبحث عما تبقى من ذكريات أطفالها فتمسح دموعَ من أثخنته الجراح، وتدفن من التهم الموت روحه، وترك لها جسده طاهرا كمحراب الصلاة، تفعل كل ذلك بحمد وتقول كل أولادي فداء لله والوطن، وتذهب لتنجب من جديد فغزة لن تصبح عاقراً أبداً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.