شعار قسم مدونات

باب الحارة.. يمثلنا!

blogs مشهد من مسلسل باب الحارة

لطالما كنت من أكثر الناس استنكاراً لمسلسل البيئة الشامي "باب الحارة" الذي يحكي لنا أحداث جرت في حارة شعبية في بداية القرن العشرين، حينما وقفت أمام حضارة مدينتي العريقة، شعرت بالخيبة والضيق، لم أر في هذا المسلسل الشامي سوى تشويه وتنكيل بما تبقى من حضارتنا، إلا أن أتى ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أتبنى الموقف الآخر، لأسأل نفسي: ماذا لو كان باب الحارة ذلك المسلسل الذي لطالما نظرنا إليه على أنه تشويه، هو تصوير لواقعنا الاجتماعي المؤلم، ماذا لو كان مجتمعنا هو مجتمع عتيق يرتدي قناع التطور ويختنق بغبار الماضي ولكن ببدلات رسمية وسراويل مصنوعة من الجينز، وتسريحات شعر وفق الموضة!

قلت أنا، كما قال الجميع في بلدي: مسلسل باب الحارة لا يمثل الثقافة الدمشقية ولا يمثل حضارة مجتمعنا في الفترة التي يزعم صناع المسلسل أنه يحكي تفاصيلها، ولكن كيف لنا أن نجد خير ممثل لحضارة دمشق، كيف لنا أن نختار من يمثل حضارة أو دين أو معتقد أو ثقافة ومن لا يمثلها، كيف يمكن لأيديولوجية ممتدة على مساحة جغرافية مهما كبرت أو صغرت أن تجد جميع الناس تعبر عن هذه الأيديولوجيا بطريقة واحدة! أليس في جملة "لا يمثل" نسف للمنطق، خاصة إن كانت لهذه الإيديولوجية أو المجتمع أوجه مختلفة، أفكار مختلفة، خاصة إذا كانت مزيجاً من أديان وثقافات وانتماءات مختلفة، في مدينة كدمشق من الصعب أو من المستحيل أن تجد جميع الناس تفكر بالطريقة ذاتها، وتعبر عن الثقافة الدمشقية بالطريقة ذاتها.

لم تزعجني نتائج الوقفة الموضوعية التي وقفتها مع نفسي إزاء مشكلة "من يمثل حضارة مدينتي"، بقدر ما أفزعني إدراكي لحقيقة أخرى، وهي أن باب الحارة المسلسل الذي رفض تخلفه الكثيرون، قد يكون يعكس واقعنا الحالي، اليوم في القرن الواحد والعشرين!

الفترة التي يحكي تفاصيلها مسلسل باب الحارة لم تكن مظلمة بالكامل بالنسبة للمرأة وللتحرر الفكري الاجتماعي، فكان بإمكانك أن تتجول في الجامعات لتر بعض النساء المثقفات يطلبن العلم ويشاركن في بناء الوطن، وكان بإمكانك أيضاً أن تجد نساء يتحاورن بمنتدىً أدبي، ولكن لو تجولت في دمشق آنذاك كنت ستجد أيضاً نساء يختبئن خلف الأبواب، يثير صوت أخيهن الذي لم ينمُ ربما شارباه بعد الخوف في قلوبهن، كنت سترى نساء يعقدن "صبحيات" عن طرق تقبل المرأة للزوجة الثانية "الضرة"، وكنت ستجد الناس تؤمن بالأسحار والتمائم، كما يلعنها وفي نفس المدينة شباب وشابات من المثقفين والمتنورين، فبأي حق نقول نحن لا يمثل الحضارة الدمشقية! 

وليصبح تقبل الفكرة أقرب إلى أذهانكم، لنتخيل مسلسلاً يصور حياة الدمشقيين اليوم، تمّت صناعته بعد مئة عام من عامنا الحالي، ويحكى فيه أن الفتيات وبنسب كبيرة يحرم عليهن دخول مجال التمثيل والفن، وأنه لا يمكن للفتيات السفر بمفردهن لأوروبا مثلاً لمتابعة تعليمهن إلا من رحم ربي، هل من الصحيح أن نواجه الرأي العام بصور بعض الممثلات السوريات، وأن نستعرض صورة فتيات متحررات تحدين مجتمعهن وكلام الناس وقررن خوض تجربة السفر بالرغم من تجريد المجتمع لهن من شرفهن وأخلاقهن ومعاداته لهن، لنبرئ مجتمعنا من تهم التخلف التي تلصق به يميناً ويساراً، ولنقول بأعلى أصواتنا: "هذا المسلسل لا يمثل الحضارة الدمشقية آنذاك". 

وبالرغم من ذلك كلّه، لم تزعجني نتائج تلك الوقفة الموضوعية التي وقفتها مع نفسي إزاء مشكلة "من يمثل حضارة مدينتي"، بقدر ما أفزعني إدراكي لحقيقة أخرى، وهي حقيقة أشد مرارة وخيبة، حقيقة أن باب الحارة المسلسل الذي رفض تخلفه الكثيرون، قد يكون يعكس بطريقة أو بأخرى واقعنا الحالي، اليوم في القرن الواحد والعشرين! وبعد مضيّ ما يقارب مئة عام على الفترة التي يحكي أحداثها، لا تصدقني أليس كذلك؟ حسناً لنذهب جولة في أروقة محاكم العدل، لنر معاً عدد الرجال الذين أباحوا لأنفسهم الزواج بثانية وثالثة ورابعة، بمباركة أيضاً من المجتمع "كما يحدث في باب الحارة" والمصاب اليوم أعظم من مصاب زواج عصام على زوجاته، فزوجات عصام لم يكنّ على القدر نفسه من العلم والثقافة والمؤهلات العملية التي تتمتع بها نساؤنا اليوم!

قد يكون موقفنا من هذا المسلسل ليس سوى ردة فعل على تلك الصفعة المؤلمة التي وجهها لنا. لأنه ربما أرانا الوجه الآخر لمجتمعنا، ذلك الوجه الذي لا نرغب بالكشف عنه حتى أمام أنفسنا في المرآة

أنت الآن ستخبرني أن فتياتنا يذهبن إلى الجامعات، يتلقين العلم ويدرسن ويتثقفن ولكن بنظرة واحدة لهذا العالم، سترى نساء يشاركن بإدارة أكبر الشركات التجارية في العالم، ستجد أخريات يحضرن أمتعتهن لرحلات فضائية، وعليه، الالتحاق بالجامعة ليس مقياساً لتحرر المرأة وانفتاح المجتمع الفكري بعد الآن!

قد يكون موقفنا من هذا المسلسل ليس سوى ردة فعل على تلك الصفعة المؤلمة التي وجهها لنا. لأنه ربما أرانا الوجه الآخر لمجتمعنا، ذلك الوجه الذي لا نرغب بالكشف عنه حتى أمام أنفسنا في المرآة. قضينا تسع سنوات وربما أكثر مختبئين خلف إصبعنا، لم نتمكن من تجاوز عقباتنا ولا مشاكلنا منذ مئة عام، لأننا تقاعسنا عن الاعتراف بوجود التخلف والانغلاق، ألّفنا الأكاذيب لطمس حقيقة تخلفنا وانقساماتنا وتطرفنا، لأننا رغبنا أن نلمع صورة مجتمع متآكل بمعظمه، مستندين على قلة من المفكرين والمتحررين وكأن التحرر والانفتاح الفكري فرض كفاية، كل ذلك لنرقع أخطاء هذه المنظومة الاجتماعية المتهالكة، ونصرخ بأعلى صوتنا: هذا لا يمثلنا!!

ربما المأخذ الوحيد على هذا المسلسل الشعبي، أنه لم يحاول بشكل جديّ تسليط الضوء على الجميل والمتسامي وعلى الحريات غير المسبوقة على صعيد الوطن العربي التي نالتها النساء في سورية آنذاك، ولكن لا يحق لنا بعد اليوم أن نهاجم المسلسل بمقولتنا الساذجة، هذا لا يمثلنا!! لأن وجود عظيمات كماري العجمي وعادلة بيهم ولوريس ماهر، لم ولن ينفِ وجود أم عصام وفوزية وأم زكي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.