شعار قسم مدونات

استشراف المستقبل بين الأحداث الكبيرة والتفاصيل الصغيرة

blogs - الخليج وأمريكا
الإغراق في التفاصيل يحرمنا النظرة الكلية الجامعة للأحداث المتسارعة والتغيرات والتبدلات التي تجري في عالمنا المضطرب، ولعل إشغال شعوبنا في تفاصيل حياتهم اليومية، حيث ضيق العيش وصعوبة الحياة يبدو جزءًا من عزلهم عن التأثير في الحياة لأن أولويات العيش القاسية لا تدع للناس مجالًا للتفكير أو العمل الذي يتطلت سعة في الوقت والمال أحيانًا، ويبدو أن هذا الأمر حرصت عليه معظم الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية والاستبدادبة التي نابت عن الاستعمار على شكل دول تحكمها تلك الطبقات السياسية والإقطاعية والقبائلية التي نشأت في أحضان الاستعمار.

واضح أن عالمنا يشهد تحولات وتبدلات تاريخية كبرى، قد لا ينتبه إليها من يعيشون التفاصيل الصغيرة بسبب طريقة الملامسة اليومية لهذه الأحداث، حيث لا تُشاهد الحدود الفاصلة بين التغيرات الصغيرة التي تنتظم لتشكل الأحداث الكبرى، فأن تعيش في وسط العاصفة بجسدك لا يعني أن لا تنتقل بعقلك ووعيك وروحك إلى مكان يمكّنك من دراسة الحالة وتفسير منشئها وعلاقتها بما جرى أو بما يمكن أن يجري، حيث يمكن أن تكون مقدمة لإعصار مدمر يتطلب أكثرَ من التعاطي مع عاصفة عابرة وإن تلاها هدوء خادع.

مع عدم وقوفي كثيرًا عند التنبؤات والتوقعات والدراسات المبنية على حدود فاصلة وأرقام وتواريخ صرفة، إلا أن شواهد التاريخ ومسار الأحداث يقول أن مئة عام منذ سايكس بيكو وحتى اليوم تكفي ليشهد العالمُ سلسلة من التغيرات والتبدلات التي أربكت المحللين ومراكز الدراسات وأحدثت هزات قوية في منظومة السياسة والقرار في هذا العالم.

مسألة حصار قطر بحد ذاتها بدت وكأنها تؤسس لحلف عربي جديد انضمت إليه إسرائيل بشكل ما، كشف الكثير من العورات وعرّى الكثير من الأنظمة والساسة والطبقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي صنعتها الأنظمة الاستبدادية لتحلل فجورها وسلوكها الشاذ.

لا أريد أن أدخل في تفاصيل وتحليلات نأيت عنها في هذه العجالة، لكني قد ألفت النظر لبعض الأحداث التي قد لا يبدو بينها رابط في ظاهرها سوى أنها تغيرات خرجت عن النسق العام الذي درج عليه العالم منذ عشرات السنين، مما أحدث اختلالًا في نظام إدارة العالم الذي تربعت أمريكا على عرشه بعد الحرب العالمية الثانية رغم وجود المنافس المتمثل في الاتحاد السوفييتي ثم استقر لها الأمر بعد انهياره، حيث خاضت مجموعة من الحروب غير الأخلاقية، وأشعلت المنطقة من أفغانستان وحتى العراق وما تلاها من سوء التعاطي مع الثورات واختلاط الاجندات وتقاسم الموت وانتزاع أحلام الشعوب الثائرة.

كثيرة هي الأحداث التي حصلت في الفترة الأخيرة والتي لا يمكن النظر إليها كأحداث عابرة، فاشتعال الثورات العربية بهذا النقاء والاحتشاد الشعبي – رغم ما حصل معها من قتل وترهيب وسجن وإعدامات وإبادة وتدخلات خلطت الأوراق – إلا أن شعلتها ما زالت متقدة وهي ما تزال في قلوب الكثيرين نقية طاهرة، ومن الأحداث المهمة كذلك صمود المقاومة في غزة في ثلاث حروب مدمرة مع تعاظم إرادتها وإمكاناتها بعد كل حرب -رغم سنوات الحصار العشر- حدث لا يمكن العبور عنه في قراءة المستقبل من غير تهويل ولا تهوين.

ولنا أن نرصد حجم الهجمة الشرسة في الأحداث الأخيرة في منطقة الخليج كيف أن المقاومة هي كلمة السر التي نطقت بها ألسنة القوم وإن لم يضمِّنوها في بياناتهم الرسمية وقوائمهم التي نشروها، وهي ذاتها كلمة السر في خطابات وتغريدات الرئيس الأمريكي الذي يُعد وصوله للحكم حدثًا كبيرًا ومهمًا يؤسس لتغيير كبير في وزن أمريكا في العالم، حيث الارتجال والتخبط والتناقض الكبير في التعاطي مع الكثير من القضايا بين الرئيس ومؤسسات الدولة من جيش ومراكز دراسات وطبقة سياسية وأجهزة الأمن والاستخبارات.

هذا الارتباك الذي كشفته أزمة حصار دولة قطر، يؤكد أن زلزالًا أصاب صناعة القرار في أمريكا التي ظهرت غير موحدة في تعاطيها مع القضية، مما جعل الكثير من الدول تخالف السلوك الأمريكي في التعاطي مع الحدث كألمانيا وفرنسا التي يعد ما جرى فيها زلزالًا كبيرًا يشبه – إلى حد ما – إقامة الجمهورية الخامسة مما حدا بالبعض ليذهب بعيدًا حيث سمى ما جرى مرحلة أولى في تأسيس الجمهورية السادسة، حيث حزب مغمور عمره سنة فقط يجتاح الرئاسة ويكتسح البرلمان ويطيح بالأحزاب التقليدية في معظم مؤسسات الدولة، في تغير صادم للمراقبين والساسة، ولا أظن مثل هذا الحدث سيكون في معزل عن الصورة الكلية التي تؤسس لتبدلات كبرى في عالمنا المضطرب.

ثم إن مسألة حصار قطر بحد ذاتها بدت وكأنها تؤسس لحلف عربي جديد انضمت إليه إسرائيل بشكل ما، كشف الكثير من العورات وعرّى الكثير من الأنظمة والساسة والطبقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي صنعتها الأنظمة الاستبدادية لتحلل فجورها وسلوكها الشاذ.

ثم هناك فشل الانقلاب الضخم الجامح الذي حصل في تركيا، وما تلا ذلك من أحداث داخلية وخارجية كهزات ارتدادية بعد فشل الانقلاب، حيث بدت تركيا في عين العاصفة التي مولتها وشاركت فيها ذات الأيدي التي تقود حصار قطر وتستهدف المقاومة وتشتري السياسيين وترشي صناع القرار في دول التأثير، بل وتضغط على دول وتهددها بإيقاف صفقات كبرى بينها وبين تلك الدول إن لم تتخذ موقفًا من بعض قضاياها الداخلية كاعتبار الإخوان المسلمين حركة إرهابية مثلًا، كما حصل مع بريطانيا بضغط إماراتي وربما سعودي في ذلك الوقت.

لا بد لنا خلال ذلك أن نحرص على أن نكون في الجهة الصواب من الصراع، مع المظلومين والأحرار بغض النظر عن جنسيتنا أو بلداننا أو رأي ساستنا وما يروجه إعلام دولنا، فلا ننحاز إلا للحق، وإن عجزنا عن الجهر بذلك.

وحتى لا نضيع في التفاصيل، لم أشأ من ذكر الأمثلة سردًا تاريخيًا، ولا توثيقًا أكاديميًا ولا تحليلًا سياسيًا، ولا توقعًا بعينه لمسار الأحداث ومآلها، ولا ترتيبًا زمنيًا للأحداث، إنما أردت أن أقول إن الأحداث التي تجري حولنا مترابطة بشكل ما، وهي ليست عابرة، ولا يشترط أنها تجري وفق تخطيط من جهات ما – كما يحلو للبعض ترديده – وخاصة فيما يعاند ويخالف ما تسعى إليه منظومة وحلف الدول والكيانات التي تحارب إرادة الشعوب وثوراتها واستقلالها، إنما هي أقدار ربنا، حيث يدفع اللهُ الناسَ بعضَهم ببعض، ليعيد للكون توازنه بالحد من طغيان الطغاة وتمكين المستضعفين وانتصار مشروعهم الذي رواه الشهداء بدمائهم وحفظَه الأحرار بأجسادهم وحملوه في قلوبهم النقية الطامحة والصابرة المثابرة الواثقة بوعد ربها.

وهذا يدعونا أن لا نيأس من تفصيل هنا أو إخفاق هناك أو اضطرار مُلجئ في مكان ما للتخفيف عن الناس أو عبور المرحلة، بل ننظر لمجمل الصورة حيث تتراكم الإيجابيات وتحتشد الانتصارات البسيطة لتؤسس لانتصار كبير يشرق فيه النهار الذي لن تدع شمسُه لليل من فرصة لينال من أحلام الثائرين بإذن الله.

ثم لا بد لنا خلال ذلك أن نحرص على أن نكون في الجهة الصواب من الصراع، مع المظلومين والأحرار بغض النظر عن جنسيتنا أو بلداننا أو رأي ساستنا وما يروجه إعلام دولنا، فلا ننحاز إلا للحق، وإن عجزنا عن الجهر بذلك فلا نصفق للخطأ والباطل والفرقة والظلم مهما عظم وانتفخ وانتفش وأغرى وهدد وأرغى وأزبد، حتى نظل في انسجام مع أنفسنا ومبادئنا وإنسانيتنا التي تسعى أنظمة الغواية والتبعية والفساد لتهشيمها وتحطيمها كي نظل أدوات طيعة في أيديها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.