شعار قسم مدونات

تزوج وعش وحيداً

blogs زواج

يقولون لك: "تزوج! فأنت بالتأكيد لا تريد أن لا تموت وحيداً!"

 

هل سمعت هذه النصيحة من قبل، هل رددها رجل أو امرأة في محيطك؟

-ربما!

لكن هل يعرف من يرددها أنه يمكن للمرء أن يتزوج ورغم ذلك "يموت وحيداً"؟

 

قابلت الكثيرين في حياتي، مئات البشر، من مختلف الأعراق والأجناس، من بين هؤلاء، لا أنسى ذلك الرجل، الذي لم تزد مدة لقائي معه عن النصف ساعة.

 

كنت في مدينة بتسبرج بالولايات المتحدة الأميركية، أقضى فترة زمالة مهنية، في إحدى الجرائد اليومية، استأجر المنسقون لي سكناً قريباً من مقر العمل، لكنه كان في منطقة معزولة، فلم أرتح له أخبرتهم فتركوا لي حرية إختيار سكن بديل. ذهبت أبحث في منطقة أكثر حيوية عن ذلك السكن، فدلني من دلني على منزل ذلك الرجل، وقيل أنه تتوفر لديه شقة مفروشة للإيجار. كان يعيش وحيداً في ستينيات عمره، تنتقل زوجته بين الأبناء المتناثرين بين أصقاع الأرض، بعضهم في المملكة العربية السعودية والآخر في ولاية أميركية أخرى.

 

كان في صحبتي شخص يدلني على الطريق، دخلت من الباب، ومنذ الوهلة الأولى، لم أرتح للمكان، وأردت الانصراف، لكن الرجل العجوز أخذ يستبقيني ومرافقي، ويدعونا للطعام، اعتذرت، ففتح البراد الذي بدى ممتلئاً عن آخره، وأخرج منه لفافة وقال "أعملك ساندوتش؟ بتحبي الفراخ؟ دي حلال!" وافقت علي استحياء وقبلت ضيافته، ثم غادرت!

 

كانت الوحدة وكأنها كائناً أسطورياً يسيطر على المكان، كسحابة رمادية ثقيلة تحجب نور الحياة، كان ذلك في عام خريف عام 2008، يومها، اعتصر قلبي الألم، ومازال يفعل، كلما تذكرت الرجل، نسيت ملامحه، وكيف كان بيته، لكنني لم أنسى حاله ووحدته، رجل ستيني وحيد يعيش برفقة براد ممتلئ بالطعام ومائدة جانبية ممتلئة بالدواء، تزوج الرجل وأنجب، لكن ذلك لم يعصمه من أن يعيش وحيداً، فلا عاصم من قدر الله إلا رحمة الله!

 

يقولون لك: "تزوج حتى تنجب، الإنجاب ضروري، بالتأكيد لا تتمنى أن تنقطع سيرتك من الحياة بعد رحيلك!"

 

هل سمعت هذه النصيحة من قبل، هل رددها رجل أو امرأة في محيطك؟

-ربما!

 

لكن هل يعرف من يرددها أنه يمكن للمرء أن يتزوج، ثم لا يرزقه الله الأبناء؟ هل يعلم من يعطون هذه النصيحة شيئا عن آلاف الذين تزوجو ولم ينجبو؟

 

إليهم القصة التالية، في ثمانينات القرن الماضي، وفي ضاحية قريبة من العاصمة الأميركية، تزوجت الأمريكية الشابة ذات الخامسة والعشرين ربيعاً، من الكهل المصري ذو الوظيفة المرموقة، والذي يكبرها بخمسة وعشرين عاماً، لم يطلب منها تغيير ديانتها، ولم يكن من شئ يعكر صفو حياتهم، سوى أمر واحد، مرت السنوات ولم يرزقهم الله الأبناء، لم يفترقا، رغم أنها كانت طفلة وحيدة لأبويها، ورغم أنه كان مغترباً طيلة حياته وكلاهما يتوق شوقاً لأبناء يصبحون أخوة وأبناء وعزوة في آن واحد، لكن أمر الله نافذ. بعد ثلاثين عاماً، عندما توفاه الله، لم يكن له من يرثه، فأوصى بأمواله لأبناء أخوته مناصفة مع زوجته.

 

وهذه قصة ثانية، منذ قرابة الأربعين عاماً، وفي إحدى بلدان الخليج العربي، تزوج الأستاذ الجامعي الشاب، من زميلته الإدارية الشابة، التي عُرفت وسط أقرانها بحسن خلقها ونسبها، أنجبا صبيان توأم، ماشاء الله، ثم شاء الله أن يسترد وديعته، ومرت سنوات ولم يشأ الله أن يعوضهما عنها، رغم أنهما كانا في ريعان الشباب، وما من حائل طبي يعوق دون تحقيق الأمل،  لم يتزوج الرجل بأخرى، ولم تفارقه المرأة الصبورة، ساراً معاً يد بيد نحو شيخوخة العمر، راضين بقضاء ربهما!

 

يظن الناس أن الرجال حتماً يملكون أمرهم، وبوسعم السعي لاختيار شريكة الحياة، فالمجتمع يسمح للرجل بالخطوة الأولى، لكن ما ينساه البعض أن هذا ليس معناه أن الرجل يملك قدره، وإن سعى جاهداً لما يريد!

القصة الثالثة مختلفة قليلة، صديقة أعرفها، هي الآن في ثمانينات عمرها، تزوجت في العشرين، وأنجبت ابنها الوحيد، رحل عنها زوجها، فوجهت كل مالها، سواء الذي كسبته من عملها، أو الذي ورثته عن أبيها الصعيدي ذو الأملاك، لتربية ابنها، عندما شب عوده، أراد الدراسة في الخارج، استجابت لرغبته، رغم ثقل العبء المادي عليها، كانت ترسل له معظم راتبها، وتعيش راضية بالقليل منه، لينعم ابنها ويشق طريقه، أملا في أن يعود إليها يوماً يؤنسها، لكنه عندما عرف طريقه، هجرها، ولم يعد أبداً لزيارتها، ومرت سنوات طويلة دون حتى اتصال هاتفي منه، حتى عندما طرقت الشيخوخة بابها كضيف ثقيل،بأعبائه الصحية والنفسية لم يؤثر ذلك على الشاب ويرقق قلبه. هي الآن تعيش في رعاية بعض الأصدقاء والأقرباء الطيبين ومن قبل في عين رعاية الله، وهي التي حفظت القرآن الكريم بعد الستين، وتبرعت بكثير من مالها للأيتام، ولا تترك مناسبة إلا وتساند من تستطيع بأموالها القليلة.

 

تزوج هؤلاء، ومنهم من رُزق الأبناء لكن ذلك لم يعصمهم من الوحدة، أو آلام الشيخوخة، فلا شئ يضمن شئ، ولا طرق آمنة في الحياة، وحدها رعاية الله لنا!

 

بالطبع لا أقصد أن الوحدة وهجر الأبناء هي قدر لا مفر منه حتى مع الزواج وتكوين "القبيلة"، في الحقيقة أعرف قصصاً أخري كثيرة، عاش أصحابها سنواتهم الغضة يتمتعون برزق الله لهم، وسنواتهم اللاحقة، يحصدون ثمار المحبة التي زرعوها في قلوب أبنائهم.

 

لكن هل تشكل نصيحتنا لغيرنا في هذه الأمور فارق؟ النصيحة أمر طيب، لكنها أحياناً كالدواء، في غير محلها تضر ولا تنفع، خاصة إذا لم يكن بوسعنا من الأصل الاستجابة للنصيحة، في أمر خارج عن إرادتنا!

 

إحدى الصديقات حكت لي في ألم عن نصيحة تلقتها وكأنها لكمة في الوجه، قالت لها إحداهن "اسمعي! لا تتزوجي، وإذا تزوجتي لا تنجبي، وإذا أنجبت، انجبي طفلاً واحداً فقط، فأنت لا تعرفين كم العبء ثقيل!" اندهشت صديقتي من الناصحة، لأنها هي نفسها تزوجت وأنجبت ثلاثة من الأطفال، وهم رفقاء حياتها الآن، حتى عندما انفصلت عن زوجها، أصبح أطفالها هم ثمرة فؤادها وروحه. تظن صديقتي خيراً في الناصحة، تجزم بحسن نيتها، لكن من قال أن حسن النية يسوغ للناصح إيذاء مشاعر الآخرين؟

 

من قال للناصحة، أو غيرها أننا في أمر الرزق، ندبر أمر أنفسنا؟

من قال أننا يمكن أن نرسل إلى الله to do list لما نود أن يفعله بنا؟ وهل نعلم أصلاً ما هو الخير؟

أليس الزواج والأطفال، كما أشياء كثيرة، قدر الله، الذي في جميع أحواله، قل أو كثر، هو خير؟

 

نعم نتوق للسعادة، نسعى إليها، نأمل أن نلتقيها في بعض الطرق، قد نراها مالاً أو عيالاً أوعملاً أو مكانة، لكن من قال أن ما نظنه السعادة هو كذلك؟

 

أطلت عليك؟ هل يمكن أن أستأذنك في قصة أخيرة؟ أو قصتان؟ أعدك سأقصهم سريعاً!

 

يظن الناس أن الرجال حتماً يملكون أمرهم، وبوسعم السعي لاختيار شريكة الحياة، فالمجتمع يسمح للرجل بالخطوة الأولى، لكن ما ينساه البعض أن هذا ليس معناه أن الرجل يملك قدره، وإن سعى جاهداً لما يريد!

 

فها هو قريب صديقتي، كان يعتني بوالدته، حتى رحلت، بلغ الأربعين ثم اقتربت رحلة حياته من الخمسين، وعندما ازداد ألح الرفاق عليه ليتزوج، تقدم لفتاة، ثم أخرى، ولم يحالفه التوفيق، ثم فجأة، ودون كثير من المقدمات، توفاه الله بعد مرض قصير، كانت هذه هي حياته، قُدر له أن يكون ابناً باراً وأخاً واصلا لرحمه، لم يُقدر له أن يكون زوجاً أو أباً، فهل كان يملك قدره؟

 

أجمل عبارة سمعتها في الحب تقول:" أجتهد لأكون صالحة، حتى إذا ما دعوت الله لك استجاب لي"

وهذه قصة زميل آخر، كابد الفقر صغيراً، لكنه كافح، فحصد شاباً ثمار كفاحه، حصل على وظيفة مريحة، وإعارة للخارج، فادخر المال، واشترى الدار، ولكنه كان يتمنى أن يتزوج من إمرأة ذات مواصفات معينة في رأسه، حاول وقدم لنفسه، وسعى لخطبة فتاة، ثم أخرى، فثالثة، لكنه لم يكن يحظى بالقبول، رغم أنه ما به عيب يذكر، وها هو بلغ الخمسين من عمره، ومازال وحيداً. فهل اختار قدره؟

 

جميل أن تحب لصاحبك الخير، لكن جميل أن تحب له الخير الذي "يحبه لنفسه"، وليس الخير الذي "تحبه لنفسك"، والذي ليس بالضرورة هو ما يناسبه. وهو المعني الذي لفتت انتباهي له الكاتبة الجميلة سهى جاد.

 

ولعل أجمل عبارة سمعتها في الحب تقول:" أجتهد لأكون صالحة، حتى إذا ما دعوت الله لك استجاب لي،" لا أظن أننا يجب أن نسدد النصيحة – وخاصة التطوعية منها- لغيرنا، حتى لو أحببناه، لا يجب أن نقول له، تزوج حتى لا تموت وحيداً،، أنجب ليكون لك ذكرى، سافر لتجمع المال، فلعل الأكثر إفادة من كل ذلك، هو دعاء صادق لله، يرزقه هداية من الله لطريق سعادته!

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.