شعار قسم مدونات

حين مات الوطن!

blogs - يد في سياج السجن
الوطن الغائب الذي كثيرًا ما قرأت عنه في الشعر والخواطر المنثورة والمقالات التي تستجدي العاطفة وترفع الهمم للدفاع عنه هذا الوطن الذي صِرنا لا نملك منه إلا الأهل والرفقة لكن لا نملك منه الموطن. نعم، أنا لأملك داخلي هذا الشيء الذي تبذل الروح والدماء لأجله؛ وكيف لي البذل بكل ما أملك وهو يريق دمي ويزهق روحي دون أن يُدرك أنني جزء منه ؛ لقد استغنى هذا الكُل عن جزئه، بل أصبح يضيق لا يبرح به فضاقت أرضه عليّ بما رحبت.

 كم كنتُ طفلًا ساذجًا تخابث عليه الأساتذة والمعلمات متآمرين مع دولته على عقله الصغير حين قرروا أن يزرعوا بقلبه "وطن" أو ما يدعى "حب الوطن"، فكانت معلمتي تحضر لنا من دواوين الشعر الأناشيد التي تنبت فينا نبت الولاء والمحبة لهذا الوطن فله "المحبة والفؤاد والدم" وبطبع الطفل كان تلك البذرة داخل فصوص المخ قابل للاقتناع والتصديق بأي شيء وكل شيء.

أضف إلى ذلك الحكايات والأساطير عن الأبطال الذين فضلوا الفداء من أجل الأرض وهذا الحب. المناهج التاريخية المثقلة بكثير من الحواديت المفعمة بالمعلومات عن البطولات والأمجاد، فكانت المعلمة كلما حكت عن أحد هؤلاء الأبطال بات لنا هذا البطل قدوة لأحدنا، وهكذا أتمت المعلمة دورها في تلك الجريمة بما حفرت داخلنا من الفخر الواهي والمواطنة.

أين الذي هو بخاطري وفمي اليوم؟  لم أجد فيه إلا أمواتا تحت الثرى، بذلوا الروح لأجل العرض والأرض، واليوم انتهك العرض، وضاعت الأرض.

أصبحنا كبارا، والعقل الذي كان يحبو صار يجري بنهم نحو المعلومة ويدقق في صحتها ويقارن بين الحقيقة والخداع، وكأن الهواية التي رباها المعلمون داخل هذا الصغير نَمت وازدهرت لتكشف تحايلهم وتفضح ما أفسدوه في نقش عقولنا.

كلما كبرنا كلما انقشعت الغمامة.. فـمهارة البحث تكبر وتنمو بنمونا شئنا أم أبينا، هو مطلب دراسي ومهني وجب العناية بتنميته، وظهر ذلك كل ما قرأنا في تاريخنا يكشف جديدا عن جهلنا، أو القليل الذي نعلمه، وبزيادة التنقيب أكتشف أن جزءا من تلك النقوش تم ردمه بداخلي. فأين الذي هو بخاطري وفمي اليوم؟ فلا الفؤاد يعتري بألمه ولا أجد في نفسي شيئًا منه.

لم أجد فيه إلا أموات تحت الثرى بذلوا الروح لأجل العرض والأرض، واليوم العرض انتهك، ولا ذلك الوطن يحيا داخلي. أَعلمت عن وطن يعيش على الدم؟ وطن لا يسعك ليسع أحلامك، فالطموح والأحلام قتل مع سبق الأصرار والترصد برصاص القهر وحُرقة قلوب الأمهات. أكثر الأوقات يقودني خيالي أنني يومًا سأرسل أطفالي للدراسة وستُعلمهم أستاذتهم وتكذب عليهم بأن هذا الوطن هو حضن!

أتخيل أن أحدهم سيسأل أي عناق يحوي رائحة الدم والرصاص والأسلاك على أسواره؛ فكل المنافذ والسبل أغلقت لا محال للهروب سوى الموت. نحن جيل محبط متخبط؛ هل نحن جيل مولع بالآلام وتأشيرة الفرح لم تصل إليه بعد؟ أو عساها لم تُرسل فعلًا. "وطني" وأعتذر لنفسي عن تلك الكلمة التي خرجت عنوة؛ أنت اليوم كحبيب غريب كُنا بالأمس كعاشقين يتغزل بعشقهما أي مار فتن به، ومع كثرة الحوادث وضيق الخناق لم نألف حتى مواثيق الرفقة وحسن الجوار.

أصبحنا كبارا، والعقل الذي كان يحبو صار يجري بنهم نحو المعلومة ويدقق في صحتها ويقارن بين الحقيقة والخداع، ليكتشف ما نقشوه كذبا في عقولنا.

كذبت إن أخبرتني أنك تحبني، وأنا أيضًا أحبك ولا أكرهك؛ فالحب والكره شعور يعني أنه مازال بداخلي لك شئ، وصدقًا ان لا أجدك لا في قلبي ولا نفسي. قد شاخ الفؤاد وهو لا يبالي بك ويسأل الله في كل صلاة اللهم هَجر. قد علمتني أستاذتي أنه جاء على لسان على بن أبي طالب: "الفقر في الوطن غربة، والغنى في غربة وطن". لن أشفق خوفًا حين أقول أني أفتقر فيك للأمان والراحة وطموحي لم يعد يبرح بك.

موطني، إياك أن تحسبني ناقمة عليك وأذكرك في القصص كما عاهدت ذلك الطفل الذي قتلت محبًا مدافعًا وكثيرًا ما ودّ أن يموت في حبك شهيدًا مجاهدًا، فالتمس لي العذر أن أخبرك بأنك لا تستحق من ماتوا ومن بين القضبان بحبك ينشد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.