شعار قسم مدونات

يا شباب الثورات.. لا يوجد "هدم" في علم الاجتماع

BLOGS-ثورة
سمعنا كثيراً خلال الثورات عموماً -والثورتين السورية والليبية على وجه التحديد- عبارات نحو "هدم مؤسسات النظام"، "هدم المنظومة الإعلامية للنظام"، "تدمير البنية العسكرية للنظام"، "ضرب البُنية الاقتصادية للنظام". مع أن هذه المنظومات والمؤسسات والهياكل هي أفراد المجتمع الذي تربى على العبودية والخضوع للفراعنة، وأقاربي وأقاربك هم جزء من هذه التشكيلات، لكن معظمهم كان مع الطبقة المسحوقة في أسفلها، وبعضهم كان في ذروتها مع المجرمين قلباً وقالباً، ودعموا الأنظمة الدكتاتورية بلسانهم حينما عجزوا عن دعمه بأبدانهم.

ومع أن معظمهم كانوا تابعين دوماً وغير متبوعين، إلا أنهم تربوا على ذات العقلية والتفكير؛ يخضعون إذا ضعفوا، ويتجبرون ويبطشون إذا سادوا، وعلمانيهم لا يختلف في ذلك عن إسلامييهم؛ لأنها في النهاية تربية مجتمعية سبقت استلام الأنظمة الدكتاتورية الحالية للسلطة في دول العالم الإسلامي، ثم جاءت الأنظمة ورسختها. وهنا نجد أن الخطأ الجوهري الذي ارتكبه شباب الثورات هو ظنهم أن المجتمع يمكن قلبه في سنة أو سنتين رأساً على عَقِب، بينما الجيل لا ينقلب إلا في ستين عاماً أو يزيد. وخلال هذه الفترة الطويلة هذه لا يمكن هدم بُنية المجتمع ومؤسساته ليبقى المجتمع دون مؤسسات، ولا يمكن أن تتوقف الحياة خلال هذه الفترة الطويلة إلى حين بناء هياكل ومؤسسات جديدة.

لأنه صلى الله عليه وسلم ليس دكتاتوراً مثلهم، ولا دينه ولا أخلاقه تسمح له أن يكون استئصالياً مثلهم، ولا قصده إفناء المشركين وقتلهم، وإنما قصده بناء المجتمع، فقد رفض عرض جبريل -عليه السلام- بإطباق الأخشبين على المشركين في مكة.

ومن ثَمَّ يكون من واجبنا أمران:
1- نبني المجتمع حجراً على حجر وإنساناً مع إنسان حتى يصبح كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فتقوى حصانته، فلا يبقى فيه مدخل للعقارب والثعابين.
2- الاستمرار بالضغط على الفراعنة بكل وسائل الضغط السِّلمي كالتظاهرات والتجمعات المدنية الصامتة والعصيان المدني وغيرها، والتي تدفع الحاكم للتصحيح خوفاً، وفي ذات الوقت توقظ الشعوب وتحرك عوامل التفكير في داخلها لتسريع عملية البناء والترميم الاجتماعي، فيبدأ المجتمع بنفث خَبَثه وطرده شيئاً فشيئاً.

فإذا لجأ الحاكم للإرهاب والاضطهاد والقهر، وبقي المجتمع هادئاً متدرجاً في عملية الضغط، ويمتص هيجان الأنظمة بالكمون، ثم يستمر بالضغط من جديد بطريقة مدروسة منظمة، فهذا سيُظهر الحاكم على حقيقته أمام الناس، وسيدفعهم للتحول إلى الحق بسرعة أكبر. وهذا نجده واضحاً في قصة أصحاب الأخدود، وكيف أن الغلام لم يستثمر أتباعه الكثيرين لسحب البساط من تحت أقدام الملك والساحر، مع أن الملك حاول قتله ثلاث مرات قبل أن يدله الغُلام على الطريقة التي يستطيع الغلام فيها أن يقتلها، وقد اختار الغلام الطريقة التي ينشر فيها مبادئه وأفكاره، مع أن فيها قتله.

وربما يكون ذلك أوضح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب الصحابة منه عندما كَثُرَ عددهم في مكة أن ينقلبوا على المشركين بالسيوف فيقتلوهم، فتتحول السلطة إليهم، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسبب عدم جاهزية القاعدة الشعبية والكوادر القادرة على توجيه المجتمع وتحريكه وبنائه، ويظهر ذلك واضحاً في قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ" -النساء: 77، فانظر كيف ألمحت الآية أن جاهزية الأفراد لم تكن مكتملة، واستدلت الآية لذلك بتقاعسهم عن الجهاد عندما حان وقته في المدينة المنورة.

ولأنه ليس دكتاتوراً مثلهم، ولا دينه ولا أخلاقه تسمح له أن يكون استئصالياً مثلهم، ولا قصده إفناء المشركين وقتلهم، وإنما قصده بناء المجتمع، فقد رفض عرض جبريل -عليه السلام- بإطباق الأخشبين على المشركين في مكة بعد الصدود التام لدعوته، وقال صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً" (متفق عليه)، فهو عندما فقد الأمل من هذا الجيل كان يفكر بانقلاب الجيل، ولم يفكر في وقت من الأوقات بانقلاب المجتمع.

وعندما خشي على هذه العُصبَة المؤمنة من الفناء والاستئصال لم يفكر ببناء مجد شخصي لنفسه على حساب أرواح الشباب؛ لأنه يعلم أن الكوادر هم أساس أي بناء اجتماعي، فوجه عدداً من الصحابة رضي الله عنهم للهجرة من مكة إلى الحبشة، مع أنهم من وجهاء قريش، والضرر الذي يلحق بهم أقل من غيرهم، وأمرهم ألا يرجعوا حتى يرسل لهم بذلك. ثم بعد خروجهم سالمين من غزوة الأحزاب في أواخر العام الخامس من الهجرة قال صلى الله عليه وسلم عبارته المشهورة: "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا" (مسند أحمد)، أي: تحولوا من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، فأرسل لهم أن يرجعوا من الحبشة إلى المدينة، فوصلوا مع غزوة خيبر في أوائل السنة السابعة للهجرة.

هذا البناء المتدرج الذي لا يتخلله هدم، في خطة استراتيجية طويلة الأمد، كان يتخلله كثيرٌ من وسائل الضغط المنضبطة من قبل المسلمين من الناحية السلوكية والقانونية، بينما كانت تثير غضب مشركي مكة وتفقدهم السيطرة على انفعالاتهم وقراراتهم، وتدفع المزيد والمزيد من الشباب للتوجه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والدخول في دين الله أفواجاً قبل تحرير مكة.

لنتصور كيف سيكون موقف الصحابة -رضي الله عنهم- لو كان إيمانهم بمبادئهم مضطرباً قليلاً، ربما كانوا حينئذ من أتباع الثورة المضادة ضد المسلمين، وتسببوا في ضجة إعلامية مزلزلة للمسلمين في المدينة المنورة!

وكان من بينها صلح الحديبية الذي ينص على رد من جاء مسلماً من مكة إلى المدينة، وبما أن هؤلاء الذين يتم ردهم قد تلقوا تربية إيمانية قوية فقد كانت ثقتهم بمبادئهم عالية، ولم يتهموا نبيهم والمسلمين بالخيانة والتخلي عنهم وخذلانهم، وإنما بحثوا عن حلول ومخارج أخرى للمصيبة التي وقعوا فيها، بل زادوا على ذلك أنهم استثمروها في خدمة الأهداف المشتركة التي خرجوا بسببها من مكة، فخرجوا إلى سف البحر وقطعوا تجارة قريش، وهم خارج سلطة دولة المسلمين في المدينة من الناحية القانونية، حتى جاء مشركو مكة وناشدوا النبي صلى الله عليه وسلم الرحم بينهم أن يتنازل عن هذا البند من بنود صلح الحديبية ويستقبلهم!!

فلنتصور كيف سيكون موقف هؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- لو كان إيمانهم بمبادئهم مضطرباً قليلاً، ربما كانوا حينئذ من أتباع الثورة المضادة ضد المسلمين، وتسببوا في ضجة إعلامية مزلزلة للمسلمين في المدينة المنورة!! وربما كان هذا الانضباط وضبط النفس الفائق هو مصدر القوة في بعض الثورات الحالية؛ كالمصرية والتونسية، وهو مصدر القوة في الدول التي لا زالت تثور بهدوء كالجزائر والمغرب وموريتانيا والأردن ودول الخليج، وهو ما يُرعب داعمي الدكتاتوريات وداعمي الانقلابات في العالم، مما دفعهم لمحاولة تدمير اقتصاد تلك البلاد خوفاً من المرحلة التالية التي يصعد فيها أنصار الحرية درجة درجة في بُنية المجتمع.

وربما يتفقون مع حكامهم في سبيل ذلك، كما أسلم خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في صفر من العام الثامن للهجرة بعد قتل وقتال شديد للمسلمين، ثم شارك في فتح مكة في رمضان من ذات العام، أي بعد ستة أشهر فقط من إسلامه وجرائمه!! فهل نعي ونعقل أن هدفنا الدعوة والبناء وليس الهدم والانتقام؟!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.