شعار قسم مدونات

دفاعاً عن الجزيرة

blogs - aljazeera
عندما قررت دول مجلس التعاون الخليجي الثلاث: (السعودية، الإمارات، البحرين) مقاطعة قطر، كان من ضمن بنود المقاطعة إغلاق مكاتب قناة الجزيرة. وعندما حاولت دول أخرى المهادنة بخفض التمثيل الديبلوماسي، كان من ضمن ذلك أيضاً إغلاق مكاتب قناة الجزيرة. كل نافذة تنشر المعلومات في هذا الشرق المُجهّل تُثير رعب الأنظمة، التي تحكم بسياسة الحجب وتكميم الأفواه، ولا تعرض إلا الرأي الواحد، أما الرأي والرأي الآخر فهو من اختصاص الجزيرة.

وأنا أدين للجزيرة بالكثير من تكوين معرفتي وثراء لغتي ووعيي السياسي حتى اشتغلت بمهنة المتاعب. فبصوت "جمال ريان" تابعت أولى نشراتها الإخبارية، كانت جديدة بكل ما فيها، بصياغة مفرداتها ونقاء صورتها، لم تبدأ بأخبار استقبل وودّع، لم تأتِ على ذكر نشاطات الحزب والمجالس البلدية في المحافظات، لم تشبه كل النشرات السابقة التي تابعتُها لا السورية ولا الأردنية ولا اللبنانية، (بحكم أن البث الأرضي في دمشق كان يستقبل البث التلفزيوني الأردني ولاحقاً البث الأرضي لقناة المستقبل اللبنانية). وبطريقة تقديمه، وتلوّن نبرات صوته، عرفت أن عرض الأخبار لا يشبه الفرمان العسكري، بل يمكن أن يكون حضور المذيع صاخباً كـ (جمال ريان) أو هادئاً رزيناً كـ (محمد كريشان).

ومع "فيصل القاسم" شاهدت لأول مرة برنامجاً حوارياً، يستضيف رأيين مختلفين يظهران معاً في الوقت نفسه ومن داخل استوديو واحد، ولازالت أحفظ إلى الآن تلك التفاصيل المدهشة شديدة التناقض في حلقة الشيخ يوسف القرضاوي والمفكر السوري صادق جلال العظم صاحب كتاب نقد الفكر الديني.

تاحت لي الجزيرة نشر أفكاري هذه في مدونتها، انطلاقاً من الرؤية التي أرستها القناة، والتي لم تُنافسها عليه أي شاشة عربية أخرى إلى الآن، وهي الاحتفاء بالإنسان ووضعه في المركز، منحازةً إلى قضاياه وحقه في العيش>

وبظهور "خديجة بن قنة" بحجابها على شاشة الجزيرة لأول مرة، عرفت أن الحجاب لن يُعيقنا بعد اليوم عن العمل التلفزيوني، في وقتٍ كان وجوده في سوريا مرفوض تلفزيوناً ودرامياً ويتعرض للمضايقات واقعياً. ومن تقارير "ماجد عبد الهادي" تعرفت إلى قوالب جديدة في التحرير الصحفي لم ندرسها في الجامعة، قوالب لا تكتفي بتقديم المعلومات والوقائع والخلفيات، بل تهتم أيضاً بالأسلوب واللغة الرمزية والطاقة المجازية التي تضيء الحدث وتوسع أفقه وتسلط الضوء على المعنى الرمزي الذي يتضمنه.

وكان أيضاً أن أسهمت الجزيرة الوثائقية بعد افتتاحها عام 2007 في تنويع معارفي التي لم تعد سياسية فقط، بل عن طريقها تعرفت إلى العالم وجبت الشرق والغرب أمام شاشتها. حضاراتٌ وأديانٌ وجغرافيا، علومٌ وكيمياءٌ وفلسفة، جبالٌ وسهولٌ وبحار، شخصياتٌ عربية وعالمية، تعرفت إليها جميعاً عبر قناةٍ واحدة. عرّفتني الوثائقية -بأفلامها المتنوعة والحديثة- إلى العالم من حولي، وحافظت في نفس الوقت على هويتي وثقافتي وحضارتي.

ومؤخراً، أتاحت لي الجزيرة نشر أفكاري هذه في مدونتها، انطلاقاً من الرؤية التي أرستها القناة، والتي لم تُنافسها عليه أي شاشة عربية أخرى إلى الآن، وهي الاحتفاء بالإنسان ووضعه في المركز، منحازةً إلى قضاياه وحقه في العيش بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية عبر الكلمة والصورة.

كيف قبضت الجزيرة علينا متلبسين بتهمة التغييب؟! كيف أخرجتنا من ضيق الأنباء المحلية إلى رحابة الخبر العالمي؟! كيف أحرجت الأنظمة والحكومات وجعلتها تلهث لمواكبة كل ما تقتنيه الجزيرة من تقنيات وما تقدمه من برامج وما ينضم إليها من مذيعين ومحررين؟!

قد ألتقي مع الجزيرة في قضايا وافترق عنها في قضايا أخرى، ولكن يبقى عامل المهنية وإجادة حِرفة الإعلام يطغى على كل ما يُمكن أن يُقال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.