شعار قسم مدونات

المارد الأزرق

blogs- الفيسبوك

يكفي أن تغيب عن العالم الأزرق ليوم واحد فقط وأن تنهمك في عملك لتنشغل عنه، ثم تأخذ قسطا من الراحة ليلا في هدوء تام بين فنجان قهوة وكتاب.. يكفي أن تبدأ يوما جديدا بدون مرض الضجيج والغوغاء وصراخ الشاشة ووساخة غبارها المتناثر على عقول بعضهم.. 

يكفي أن تتناسى هذا العالم، وتنسى روتينك اليومي وتحزم أمتعتك بمعية بعض الرفاق لتسلك الطرق الوعرة والخطرة لبعض المناطق المنسية وتمسك بأيدي مجمدة وقاسية، وتتحسسها، أو أن تزور إحدى الخيريات لتتقرب من أطفال متخلى عنهم وكممت أفواههم ألما وتنسى من يفتح فاه بالعريض وينعت الكل بالمجتمع الفاعل والمفعول به وينسى أنه جزء من المجتمع.. 

يكفي أن تجالس نفسك يوما واحدا فقط بمقهى دون أن تحتك بمحيطك وأن تسترق السمع من محادثات البعض ومناقشات البعض الأخر، تفاهات المارة وأفكارهم العابرة أو نصائح الغرباء.. ثم تعود أدراجك لتدوس على زر أزرق لتقتحم من جديد العالم الأزرق وتراقب من بعيد نقاشات جدية وحوارات مزيفة وأفكار مشتتة وتعاليق العبث أو التفاهة وتفاعلات التملق وجيمات النفاق، الكل ينتقد الكل والبعض ينعت البعض، والكل يفهم الكل والكل لا يتفق مع البعض في حين أن البعض يرفض الكل، لتفهم أن الأمر يتعلق فقط بضغط على زر ليجعل الحقيقة تنصهر أمامك..

لو أن الجميع يتخلى عن انتقاد الشخص ويناقش أفكاره وينتقد ما هو فاسد فيها ويتبنى الجيد منها، فكلنا عابر سبيل سواء بهذا العالم الافتراضي أو الحقيقي، لأن الشخص يموت ولا تموت أفكاره

هنا فقط، تدرك أن الجميع لا يفهم والجميع يفهم، وأن الجميع يقتحم هذا العالم ويزعج أزراره وسكانه، معتقدا أنه هو الكائن الوحيد الذي له من العلم ما ليس للآخرين وأنه على دراية بكل شيء ولا شيء، وأن الجميع يُحمل المسؤولية للجميع ولا أحد مسؤول.. لو أن الجميع يدرك أن لا أحد منا يستوعب كل ما يجري أمام وخلف الستار، لو أن الجميع يكف عن العبث في خصوصيات الغير فلا يتعب ولا يُتعب الأخر..

ولو أن الجميع يتخلى عن انتقاد الشخص ويناقش أفكاره وينتقد ما هو فاسد فيها ويتبنى الجيد منها، فكلنا عابر سبيل سواء بهذا العالم الافتراضي أو الحقيقي، لأن الشخص يموت ولا تموت أفكاره، لو أن الجميع لا يناقش مدى ميوعة أفكار الأخر أكثر من مناقشة سبل عدم انتشار تلك الأفكار المائعة..

منذ أن اقتحمنا هذا العالم الأزرق، وفي الحقيقة هو من اقتحم عالمنا الحقيقي، أدركت أننا نعيش كل يوم بعالمين مختلفين لكن لا يختلف أحدهما عن الأخر، غير أن العالم الأول مجرد تسجيد صغير ومبسط نوعا ما للعالم الثاني، هو إسقاط لبعض عاداتنا السيئة، لا غير ..!

رغم أننا هنا كما هناك، إلا أننا ننسى حقيقة بعض الأمور ونحن نُحوِل حقيقتنا هنا، فالوعي هنا لا يمثله حضورك بهذا العالم، تواصلك مع الأخر من هنا لا يثبت الذات، وأفكارك لا تجسدها مجرد خربشات يومية، فمعظم الأحيان تكون مجرد أحقاد أو صرخات دفينة.. رغم أننا هنا كما هناك إلا أننا نترك الأجمل معتقدين أننا نعيش الجميل، ونتجاهل الأسوأ معتقدين أننا نحاول فك قيود السيئ هنا، ونحن هنا أكثر من هناك يفوتنا أن نعيش لحظات حياتنا كما نرغب، ونتيه بدروب الغير هنا وهناك ..

بعبارة أخرى أفكارنا هنا لا تكلف الكثير سهل جدا أن ننشئها كما نريد ونشاركها حيت نريد ومع من نريد لكن صعب أن نضمن استمراريتها واختراق كلماتها لجدار الواقع، فننهيها بحسرة أو ينهيها الأخر بكل سهولة، لأنه وبكل بساطة بعض سكان هذا العالم يفتقرون إلى النضج الفكري والنفسي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.