شعار قسم مدونات

لكل فلسطيني حكاية

blogs - Palestine map
خمسون عاماً على الحرب، طلاب وعاملون لم يعودوا. "نجحتُ في الحصولِ على شهادةِ تخرجي وفشلتُ في العثور على حائطٍ أعلقُ عليه شهادتي!". يعلقُ الشاعرُ الفلسطينيُ السيدُ مريد البرغوثي في كتابِه ( رأيتُ رام الله ) الذي يروي حكايتَه. فلسطينيٌ من قريةِ دير الغساسنة قضاءَ رام الله غادرَ الضفةَ الغربيةَ إلى جمهوريةِ مصرَ العربيةِ كطالبٍ مسافرٍ بغرضِ استكمالِ دراستِه الجامعية عامَ 63 كأيِ طالبٍ في العالمِ يغادرُ بلادَه مسافراً إلى دولةٍ أخرى للدراسة.

بعدَ أربعِ سنواتٍ شنتْ "إسرائيلُ" الحربَ الثالثةَ واحتلتْ الضفةَ الغربيةَ وقطاعَ غزةَ وأجزاءَ من الدولِ المجاورةِ لها، سيطرت على الأرضِ وحكمتْ سكانَها بنظامِ الحكمِ العسكريِ الذي يحددُ حياةَ المدنيينَ بالمعاييرِ والضروراتِ العسكريةِ في المقامِ الأول. بعدَ ثلاثةِ شهورٍ من الحربِ أجرتْ إدارةُ الاحتلال إحصاءً للسكانِ في الضفةِ الغربيةِ وقطاعِ غزةَ، في هذا الإحصاءِ يسجلُ الأفرادُ المتواجدونَ فقط عندَ إجراءِ الإحصاءِ ويمنحون لاحقاً بطاقاتِ إثباتِ شخصيةٍ (هوية) صادرةً عن إدارةِ الاحتلال.

بعدَ خمسينَ عاماً من الحربِ سيكونُ الطالبُ الذي غادرَ في الثامنةَ عشرة من عمرِه للدراسةِ سيكونُ في الثامنةِ والستين وسيكونُ العاملُ الذي سافر للعملِ قد تجاوزَ السبعينَ عاماً.

المسافرونَ – بغضِ النظرِ عنْ سببِ سفرِهم – لنْ يُسجلوا في الإحصاءِ ولن يحصلوا على إثباتِ الشخصيةِ ولن يسمحَ لهم باجتيازِ المعابرِ والعودةِ ثانيةً للضفةِ الغربيةِ وقطاعِ غزةَ حيثُ الدخولُ والخروجُ المنتظمُ من الأراضي الفلسطينيةِ المحتلةِ عامَ 67 أصبحَ محدداً بامتلاكِ بطاقةِ اثباتِ الشخصيةِ الصادرةِ عنْ الاحتلال. لن يسمح للسيد البرغوثي بالعودة لرام الله بعد انتهاءه من دراسته الجامعية في القاهرة لأن هناك ثمنا للحرب عليه أن يدفعه من حياته وحياة والدته وأسرته التي حينما ودعها كطالب لم يكن يعلم أنه سيودعها لتنتظره بعدها لعقود!

ليسَ وحدَه! آلافٌ من الفلسطينيينَ طلابٌ وعاملونَ في الخارجِ مع أسرِهم كانوا خارجَ البلادِ عشيةَ اندلاع الحرب، لنْ يَحصلَ أيٌ منهم على (إثباتِ الشخصيةِ) من الاحتلالِ ولن يُسمحَ لهمْ بالعودة، ليسوا وحدَهم! أبنائُهم أيضاً سيمنعونَ بالوراثةِ حيث سيصبحُ امتلاك (إثباتِ الشخصيةِ) بالوراثةِ فقط، سيدفعُ الجميعُ الثمنَ ولن يستثنيَ العقابُ أحداً!

بعضُ الرواياتِ الفلسطينيةِ يصعبُ تخيلُ حدوثِها وتصعبُ روايتُها أيضاً، المأساةُ الإنسانيةُ أكثرُ عمقاً من مأساةِ الأرضِ ذاتِها التي دُمرتْ أغلبُ مدنِها وقراها وأُقيمتْ عليها "دولةٌ "، هذه المأساةُ بكلِ أبعادِها وأشكالِها المختلفةِ والتي تطالُ الملايينَ من الفلسطينيينَ جماعياً لا تبدو في طريقِها إلى حلٍ عادلٍ رُغمَ أنها البعدُ الأولُ " للصراعِ في الشرقِ الاوسط " ؛ لكنَّها أبعدُ ما يكونُ عن الحلِ الذي لم يتجاوزْ نطاقُه حتى الآن أكثرَ من تثبيتِ الوضعِ المؤقتِ المأساويِ للمدنيينَ الفلسطينيينَ الممتدِ منذُ الحربِ الأولى 1948 مروراً بالثانيةِ والثالثةِ وما بعدَها حتى الآن.

عندما وقعَ الجنديُ الإسرائيليُ الفرنسيُ الأصلِ في الأسرِ جلعاد شاليط عامَ 2006 على حدودِ قطاعِ غزة، كانتْ التصريحاتُ الرسميةُ الفرنسيةُ تستعطفُ العالمَ من أجلِ الجنديِ قائلةً أنه "من حقِ كلِ إنسانٍ أنْ يعودَ لأهلِه"، هذا الحقُ عندما تعلقَ بالمدنيينَ الفلسطينيينَ لم يكنْ الأبرزَ لدى بعثاتِ فرنسا التي أرسلتْها للشرقِ الأوسطِ عامي 93 و94 والتي اتفقتْ خلال اجتماعاتِها مع ممثلي الحكومةِ الإسرائيليةِ على عدةِ نقاطٍ تتعلقُ بجمعِ شملِ العائلاتِ التي مَنعَ الاحتلالُ عودةَ أبنائِها بعدَ حربِ 67 كانَ من أبرزِها أن أيَ حلٍ يجبُ ألا يؤدي لزيادةِ عددِ العائلاتِ تحتَ هذه الفئةِ أيْ أن أيَ حلٍ سيحلُ قضيةَ أعدادٍ محدودةٍ وليس الجميعُ ويجبُ العملُ على ألا تزيدَ هذه الأعدادُ، هذا هو " حقُ كلِ إنسانٍ بالعودةِ لأهلِه " الذي تتحدثْ عنه فرنسا والذي يحلُ مشكلةَ "شليط" ولا يحلُ مشكلةَ " الجميعِ "!

آلافٌ من الفلسطينيينَ طلابٌ وعاملونَ في الخارجِ مع أسرِهم كانوا خارجَ البلادِ عشيةَ اندلاع الحرب، لنْ يَحصلَ أيٌ منهم على (إثباتِ الشخصيةِ) من الاحتلالِ ولن يُسمحَ لهمْ بالعودة.

بعدَ خمسينَ عاماً من الحربِ سيكونُ الطالبُ الذي غادرَ في الثامنةَ عشرة من عمرِه للدراسةِ سيكونُ في الثامنةِ والستين وسيكونُ العاملُ الذي سافر للعملِ قد تجاوزَ السبعينَ عاماً غالباً، عندما "قدْ يعودُ" في إطارِ "حلِ وضعٍ نهائي" يُساومُ عليه حتى الآن لنْ يجدَ غالباً والدَه أو والدتَه على قيدِ الحياةِ وقدْ لا يجدُ بعضَ أفرادِ أسرتِه من الأحياءِ كذلك، لنْ يجدَ حياتَه ولنْ يجدَ تاريخَه، لنْ يجدَ سوى ألمَ الوطنِ والإنسانِ !

عندما تمكنَ السيدُ مريد البرغوثي من دخولِ الضفةِ الغربيةِ بعدَ ثلاثين عاماً من الحربِ لأولِ مرةٍ منذُ عامِ 63 بعد اتفاقاتِ أوسلو ضمنَ أعضاءِ منظمةِ التحريرِ الذين عادوا إلى الضفةِ وفقَ الاتفاقياتِ، كتبَ بعدَ ثلاثينَ عاماً – أخيراً – رأيتُ بلادي، رأيتُ الغساسنةَ قريتي، رأيتُ مدينتي، ( رأيتُ رام الله ).

هي ذاتُ الروايةِ، ذاتُ المأساةِ، ذاتُ الألمِ والظلمِ الذي فُرضَ على الجميعِ، ليَخلقَ من حياةِ الفلسطينيينَ قصصاً متشابهةً يرويها الجميعُ !، لكل فلسطينيٍ حكايةٌ في كتابِ الوطن. لكل فلسطيني حكاية : سلسلة مقالات تتناول جوانب من أحوال وقضايا الفلسطينيين الانسانية السياسية الناجمة عن مأساة قضية فلسطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.