شعار قسم مدونات

سيكولوجية الصيام

مدونات - الصيام
العجيب أن هذه العبادة لا يكاد يخلو منها دين سماوي أو غير سماوي، فالصيام بأشكاله وأنواعه المختلفة يكاد يكون طقس إنساني مرتبط بروح الإنسان وتطلعها إلى ما بعد الحياة المادية. فلماذا الصيام وماذا يفعل في نفس الإنسان؟ جولة في صيام شهر رمضان وتأثيراته وتفاعلاته النفسية:

1-  لعلكم تتقون
اختبار الإرادة الإنسانية.. اختبار قدرة النفس البشرية على التحمل والمثابرة والمقاومة بدون رقابة إلا وازع داخلي يتكون وينمو مع الصيام حيث لا يستطيع أحد أن يعرف كون الإنسان ملتزم بالصيام من عدمه.

كان عندي طفل في العاشرة من عمره وقد أتت به جدته لمعاناة نفسية فسألته وأنا أصف الدواء عن صيامه في رمضان حتى أقرر مواعيده وفقا للإفطار والسحور، فانبرت الجدة معلنة أنه قد صام رمضان الفائت بأكمله ليرد الطفل بكل براءة مبتسما "لم أكن أصوم كنت أفطر عندما أنزل ألعب في الشارع ولم تشعري بذلك" وسط ذهول الجدة، وأنا أقول في نفسي: وكأنه يجسد حكمة الصيام في تربية النفس والضمير لدى الإنسان، وهو ما نغفل عنه ونحن نضغط على أطفالنا في الصيام دون أن نحببهم في ذلك ودون التأكيد على معنى مراقبة أنفسهم بأنفسهم دون الحاجة إلى الكذب علينا، حيث يضيع الأثر النفسي والدور السلوكي الذي يقوم به الصيام في نمو ضمائرهم بشكل طبيعي تلقائي.

من طالع كتابي عن الشذوذ الجنسي لاحظ أن صاحب التجربة الناجحة في التخلص منه كان شهر رمضان، شهر حاسما في البرنامج العلاجي حيث كانت إرادة التغيير التي يبثها الصيام في النفس قوة إضافية لإرادة الشفاء والعلاج.

فلا نتساءل عن سبب غياب تحمل المسئولية الذاتية لدى أولادنا رغم أننا السبب؛ لأننا فرغنا الصيام من مضمونه حيث أجبرناهم عليه رغم أن الفكرة الأساسية وراء الصيام هو كونه عبادة تخص الإنسان في علاقته مع نفسه لأنه لا يطلع عليها أحد ولا يعلم عنها إلا صاحبها.

2- كسر المألوف
إن دافع الإثارة من الدوافع الفطرية التي يحتاج الإنسان إلى إشباعها؛ ولذلك فعندما لاحظ جون بياچيه طفله وهو ينخرط في لعبة لم يحصل منها إلا على إحساس الإثارة، تحدث عن هذا الدافع لدى الأطفال الذي يدفعهم إلى تصرفات خطرة في بعض الأحيان لمجرد إشباع هذا الدافع، وهو ما يفسر استمتاع الكثيرين لأفلام الرعب أو الألعاب الخطرة في مدن الملاهي، بل وحتى السفر لمسافات لزيارة أماكن جديد.

ليأتي الصيام ليكسر المألوف في الزمن والعادات والأفعال، فنأكل وجبتين بدل من ثلاثة ونأكل بالليل بدلا من النهار ونتسحر في وقت كنا نفط فيه في نوم عميق، وتتوقف الحركة في الشوارع في وقت المغرب وهو وقت تمتلئ فيه الشوارع بالنشاط والحركة في الأوقات العادية.. إنه وقت مستقطع من الزمن الرتيب المعتاد يتغير فيه كل شيء لسنا نحن كما كنا قبله أو بعده، حتى إننا مع انتهائه نحاول أن نتذكر كيف كنا وربما أخذنا وقت حتى نستعيد نفس النظام السابق.

نشعر بحيوية نفسية ومتعة روحية ونحن نقف في صلاة التراويح خلف الإمام ونحن ربما نكسل في الأيام العادية أن نصلي العشاء جماعة في المسجد أو نصلي حتى السنن والرواتب، وترتفع معنوياتنا وتزول هموم وتوترات مع كسر الروتين والملل مع عادات وأطعمة وتنظيم للوقت مختلف وجديد.. يأتي رمضان كل عام ويعطينا هذه الدفعة النفسية والجرعة المكثفة من الإثارة من خلال كسر العادة والرتابة.

3- التغيير
يواجهنا في العلاج السلوكي مشكلة متكررة وهي إحساس الإنسان بالعجز ناحية ما نطلبه من تغيرات سلوكية، حيث يقرر الإنسان أنه لا يستطيع تغيير عاداته أو سلوكياته أو اكتساب خصال جديدة، ليأتي الصيام فيكشف كذب هذا الادعاء حيث يقدم نموذج عمليا للتغيير السلوكي عبر برنامج يستمر لمده شهر. حتى أن رمضان يكون نقطة البداية في تغيير سلوكيات مرضية تظل صعبة التغيير، فيأتي رمضان فأنتهزها فرصة لمساعدة صاحب المشكلة في التعامل معها، ويعتبر التدخين نموذجا صارخا لذلك.. حيث يمتنع المدخن لنصف اليوم عن التدخين فأقول له: ما دام الأمر كذلك فتعالى نكمل اليوم ثم تعالى نكمل الشهر، وبدلا من معاناة الأعراض الانسحابية لمنع النيكوتين بدون ثمن تعالى لنكسب ثوابا أيضا من خلال الصيام. وهكذا باقي العادات السيئة فإدمان العادة السرية وإدمان المواقع الإباحية يكون رمضان نقطة انطلاق للتخلص منها.

هل هناك أروع من التسامي على أقوى شهوتين "شهوة البطن وشهوة الفرج" بمحض الإرادة! فمن تسامى عن هاتين الشهوتين فهو أقدر على التسامي على كل صراعات النفس والتعامل معها والتخلص منها باستخدام هذه المنظومة الدفاعية.

ومن طالع كتابي عن الشذوذ الجنسي لاحظ أن صاحب التجربة الناجحة في التخلص منه كان شهر رمضان، شهر حاسما في البرنامج العلاجي حيث كانت إرادة التغيير التي يبثها الصيام في النفس قوة إضافية لإرادة الشفاء والعلاج.

4- التسامي
من النظم النفسية الدفاعية الناضجة يعتبر التسامي من أهمها بل وأروعها تأثيرا على النفس الإنسانية، وهل هناك أروع من التسامي على أقوى شهوتين "شهوة البطن وشهوة الفرج" بمحض الإرادة! إذاً فمن تسامى عن هاتين الشهوتين فهو أقدر على التسامي على كل صراعات النفس والتعامل معها والتخلص منها باستخدام هذه المنظومة الدفاعية؛ لأنه يتدرب عليها مرة في العام لمدة شهر كامل. وليكون الجوع هو وسيلة نفسية معتمدة لتصفية الذهن والمساعدة على التركيز والبعد عن التشوش يستخدمها الكثيرون كجزء من تدريبات نفسيه كجزء من السمو الإنساني.

5- المدرسة النفسية
ليكون الصيام مدرسة نفسية متكاملة تتجدد فيها النفوس سنويا ليكون أعظم أثر له ناتج عن الإذعان لأمر الله لعباده للصيام في هذا الوقت وبهذه الكيفية، حيث يحدث أثر طاعة الخالق في نفس المخلوق إحساسا روحانيا يشحن نفسه بطاقة تطلق إبداعاته في تعمير الحياة والأرض طول العام. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.