شعار قسم مدونات

حقيقة الإضطراب في المشهد الدّولي

مدونات - ترمب والاتحاد الأوروبي

ظهر في الآونة الأخيرة تململ بعض الدّول الكبرى التّقليدية والمركزيّة على غرار روسيا وألمانيا وارتفاع أصوات ضدّ السياسة الأميركيّة من قبل شخصيّات سياسيّة وازنة كتذمّر جيريمي كوربين من تبعيّة بلاده للسياسة الأميركية، والذي فشل تيار الوسط العُمالي بقيادة توني بلير في منعه من الفوز بزعامة الحزب، كلّ ذلك حصل نتيجة الابتزاز الأميركي الملاحظ والغير مسبوق لدول العالم.

فسابقا كانت الولايات المتحدة الأميركية تُرغم دول الاتحاد الأوروبي على تبني مواقفها والسير معها في تنفيذ ارادتها دون تحميلها تكاليف وأعباء مشاريعها كاملة، أمّا دول الخليج فقد كانت تُنهب دون إفراغ خزائنها أو الاعتماد على مدخولها لمعالجة مشاكلها ودعم قيادتها السياسية، لكن مع مجيء الرئيس الجديد ترمب، جنحت أميركا إلى سياسة تحميل الآخرين تبعيات سياساتها ومصالحها ومشاريعها دون الأخذ بعين الاعتبار تداعيات ذلك على الدول والأنظمة التابعة لها وتلك التي تدور في فلكها.

مواقف ترمب وآخرها نقده لألمانيا بسبب عدم دفع إتاوتها للحلف الأطلسي، أو إعلان انسحاب بلاده من اتفاق قمّة المناخ، كلّ تلك المواقف هدفها ابتزاز أوروبا والعالم من أجل تحمل أكثر للأعباء المالية في تنفيذ مشاريع أميركا.

وإن كان هذا يؤثر على العلاقات الدوليّة ويربك سير بعض القضايا، لكنّه لا يؤثّر على الموقف الدّولي مجملا الذي لا تزال الولايات المتحدة قابعة على رأسه ومتفرّدة به منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور النظام العالمي الجديد. وعلاوة على ذلك، ليس من المتوقّع أيّ تغيير في الموقف الدّولي في المدى المنظور وذلك لعدم توفّر أسباب تبدّله ولعلّ أهمّها "تراجع الدّولة الأولى في العالم"، وعدم ظهور قوة مبدئية منافسة مُتحررة من القيود الأميركية، تكون قادرة على المشاركة الفعلية في صياغة القرار الدولي.

زحزحة الدّولة المتحكمة بالمشهد الدّولي لا يأتي عبر القوّة العسكريّة وحدها بل ان الخيار العسكري لتغيير الموقف الدّولي غير ممكن في ظلّ وجود السلاح النووي في قبضة القوى العظمى، وإنما يأتي بالنفوذ في المناطق الحيوية كمنطقة الشرق الأوسط وبالاستقلال الاقتصادي بِحَدّهِ الأدنى كعدم ارتباط مصالح واقتصاد الدولة المنافسة بأميركا، وهذا ما تفتقر إليه الصّين اليوم، علاوة على امتلاك الدّول المنافسة منظومة قيميّة عالمية وعقيدة سياسيّة تشكّل بها مبدأ يكون عابرا للقوميات والمعتقدات الروحيّة الخاصّة، وهذا ما ينقص روسيا القوميّة اليوم.

أوروبا بذاتها عاجزة على حماية حدودها وأمنها كما يغيب نفوذها في المناطق الحيويّة العالميّة فضلا عن كونها لم تستطع معالجة قضيّة دوليّة واحدة بمعزل عن الدّولة الأولى في العالم، وهذه هي نقطة ضعفها. أمّا الكرملين فهو فاقد للنفوذ خارج مجاله الحيوي بل ويكافح من أجل البقاء في بعضه بعدما فقد غالبيّته كخسارته لأوكرانيا. وحضور روسيا في الملف السوري فلا تملك فيه الفعل إلا بعد سماح أميركا بذلك عن قصد. وعلى هذا الأساس ليس متوقّعا اتساع الهوّة بين واشنطن وأوروبا أو يتعدّى الخصام عبارات الامتعاض والتذمّر إذ لا تملك أوروبا إلا السعي نحو إيجاد صيغة توافق مع إدارة ترمب بخصوص الملفات العالقة، كما يستحيل على الرّوس فرض إرادتهم بالقوّة العسكريّة وحدها.

زيادة التواجد العسكري في كوريا الجنوبيّة وتفعيل دور داعش في أفغانستان هي من التحرّكات الأميركيّة التي يبدو في ظاهرها خنقا للرّوس وضغط عليهم، لكنّه في حقيقته ضغط على أوروبا

هذه هي حقيقة العلاقة بين أميركا وأوروبا بما في ذلك روسيا. وليس متوقّعا أن تستمرّ وتيرة التذمّر وذلك حرصا من الدّولة العميقة في أميركا على بقاء الاتحاد الأوروبي تحت قيادة أميركا وعدم انفراط عقده. كما أنّ مواقف ترمب وآخرها نقده لألمانيا بسبب عدم دفع إتاوتها للحلف الأطلسي، أو إعلان رئيس أميركا انسحاب بلاده من اتفاق قمّة المناخ في باريس، كلّ تلك المواقف هدفها ابتزاز أوروبا والعالم من أجل تحمل أكثر للأعباء المالية في تنفيذ مشاريع أميركا، كما تنطبق هذه الاستراتيجية أيضا على دول الخليج بنفس القدر، وهذه التي يسمى سياسة الصّدمة.

ولذلك فالتوتّر بين أوروبا وأميركا مقصود لإخافة الأولى من تخلّي الثانية عن حمايتها في نفس الوقت الذي تقوم فيه واشنطن بالتصعيد حاليا مع روسيا في آسيا الوسطى بغية الضغط على دول أوروبا، وليس على روسيا. فزيادة التواجد العسكري في كوريا الجنوبيّة وتفعيل دور داعش في أفغانستان هي من التحرّكات الأميركيّة التي يبدو في ظاهرها خنقا للرّوس وضغط عليهم، لكنّه في حقيقته ضغط على أوروبا عبر إيجاد فكرة ارتباك في الموقف الدّولي ونشر فزّاعة الخوف من روسيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.