شعار قسم مدونات

إفطار في الكنيسة

blogs - iftar 2
 
في يوم من الأيام الدامية في شرقنا العربي العزيز الذي لم يشهد فجراً هادئاً ولا ليلة قمراء منذ أن حلت عليه لعنة الإرهاب والتصق بالدين السمح تلك الأكذوبة فصدقها عنه الكثير لا فرق إن كانوا من الشرق أم من الغرب.

في رمضان.. شهر من الأشهر الحرم.. موسم الطاعات والقربات يشد فيه المؤمنون أحزمتهم فتكتظ بهم المساجد وتعمر موائد الرحمن وتضاء لياليه القدرية. ضيف محبب ينتظره الأطفال والكبار بفارغ الصبر يجلب معه الفرح والحبور. ضيف لم يعد كذلك! بل صار يجلب الحنين والغصات في الحناجر والعبرات العالقة بين الأهداب. لا يوجد منزل لا يشكو الفقد في رمضان. لا توجد عائلة لم تتجرع طعم الاغتراب.

عند ضربة المدفع المعلنة لبدء الإفطار.. ذلك الصوت الذي بات يتردد في آذاننا مضخماً أضعافاً مضاعفة بلا توقيت ولا حرمانيه يعلن موسم الهول والقتل والدمار لا يراعي قدسية لشهر أو حرمة لدم طفل أو امرأة أو شيخ طاعن. في بلادي لم يعد المدفع يستعمل قبيل الإفطار فننتظره بفارغ الصبر، بل صار المدفع هناك ناقوس الموت يدق فوق رؤوس الآمنين ويدك بيوت النائمين.

في وسط البلد في كنيسة قديمة اقتطع منها جزء لصالح منظمة غير حكومية ترعى شؤون اللاجئين من جنسيات مختلفة. دعيت إلى الإفطار معهم فلبيت الدعوة. ليست هذه هي المرة الأولى التي أدعى إلى إفطارهم حيث يقام في هذه الكنيسة كل رمضان إفطاراً جماعياً تجتمع فيه جنسيات عدة إفريقية وآسيوية يتشاركون بهجة الإفطار سوياً ويتناولون طعاماً معداً بأيديهم. المرة الماضية تناولت طعاماً سودانياً، هذه المرة كان طعاماً يمنياً شهياً. 

دعوكم من الأسماء وتعالوا معي إلى فناء الكنيسة. حيث تجمع الضيوف بالعشرات تنوعت ألوانهم وأجناسهم: الإفريقي والآسيوي والأوروبي يلتفون حول الموائد بانتظار آذان المغرب. يطوف علينا المتطوعين ويحملون التمر والعصائر ووجبات الطعام، وجوه سمحة وعبارات تهنئ المسلمين الصائمين بشهرهم وتتمنى لهم إفطاراً شهياً. تحين لحظة الإفطار ويعلو صوت الآذان ويبدأ الجميع بشرب الماء وأكل التمرات لا فرق إن كان مسلماً أو غير مسلم، الجميع سواء. تغمرني في هذه الأجواء مشاعر وأفكار يضجّ بها كياني. هذه هي الإنسانية والتسامح تتجلى في أبهى صورها.

 

في ذات هذه الأوقات الطيبة ولكن في بقعة أخرى من كوكبنا المزدهر بالسلام تشحن الأفكار السوداء وتعتمل في الصدور الأحقاد ويغدو السلاح هو المتحدث الرسمي. يقطعني صوت المتحدث الرسمي في حفل الإفطار بلغته الانكليزية ولكنته البريطانية مرحباً بالحضور ومتمنياً لهم إفطاراً شهياً مضيفاً إلى سلسلة ترحيباته وأمانيه ألا يرانا العام المقبل في فناء هذه الكنيسة التي تجمعنا اليوم. فالضيوف هنا لاجئون -بمن فيهم أنا- وما يجمعنا أرض طيبة وأمنية حزينة.

 

آمين.. كلمة تهمس بها القلوب نقولها إثر الدعاء مسلمون كنا أم نصارى عرباً أو أعاجم. يتناول مكبر الصوت أحد العاملين في المنظمة ويحكي لنا: "منذ يومين فقط عدت من النرويج حيث كنت أحضر دورة تدريبية عن الحوار ضمت سبعاً وعشرين فرداً من أنحاء متفرقة من العالم وشاء القدر أن أكون العربي الوحيد الآتِ من الشرق السعيد والمسلم الوحيد الصائم بين الحضور. في النرويج يبلغ عدد ساعات الصيام 22 ساعة فقط! ولا شك أن الفندق الذي نزلت به لم يكن ليقدم وجبات الإفطار أو السحور للصائمين بل يقدم وجبات ثلاث آخرها عند الثامنة مساء. وفي أول يوم صوم قضيته هناك قرع عليّ أحدهم باب غرفتي قبيل الإفطار فوجدت عند الباب مدير المعهد النرويجي الذي يقدم لنا الدورة التدريبية.. كهل في الستين من العمر ابتسم ووجه لي دعوة للإفطار عنده حيث أعدت زوجته الطعام أو أنه سيحضر لي شيئاً من هذا الطعام الوفير لأتناوله في غرفتي على راحتي. لم يعط لنفسه الفرصة حتى يمضي يومان فيعلم بقصة صيامنا نحن المسلمين، لكنه بادر. انعقد لساني و لم أدر كيف السبيل لأشكره ليس لأنه دعاني إلى مائدة الإفطار فحسب بل لأنه قدم لي درساً عملياً في الحوار الفعال كان أعظم مما جئت لأجله النرويج قاطعاً بلداناً وقارات. هذا الحوار الصامت الذي انعقد بين رجلين لا شيء يجمعهم كالدين أو العرق أو اللغة جمعهم حوارٌ روحيٌّ إنسانيُّ خالص يسمو عن أي تفرقة كان أبلغ وأعمق من أي لغة حوار أخرى. أبلغ من العديد من المحاضرات و المؤتمرات الدولية التي تدعو العالم إلى الحوار والتعايش السلمي وتقبل الآخر (نظرياً) لكن قلما رأيناه يتجسد بصورته (العملية) وهذا ما أدعوه يا سادة (حوار الروح) ". 

إنه كذلك! أتاني الجواب وغمرني السلام على مائدة إفطاري الرمضانية في فناء الكنيسة، السلام الذي يتحدثون عنه في نشرات الأخبار، السلام الذي يدعيه كل سياسيّ يسكّن به ثائرة أهله وشعبه بأنه سيعود إليهم ظافراً بعد الحوارات والتشاورات والمفاوضات حاملاً لهم السلام، السلام الذي سيسلب منا الأرض مقابل أن نعيش بسلام! كل هذه (السلام) لا يشبه ما شعرت به هذا اليوم.. ولعل تواجدنا اليوم أجناساً وأعراقاً وأدياناً مختلفة على مائدة إفطار واحدة في شهر يقدسه المسلمون في فناء كنيسة لهو أبلغ تأثيراً وأعمق مقالاً وأنفذ رسالةً ممكن أن تصل للعالم جمعاء عن (حوار الروح)! نريد المزيد من هذا الحوار.. نريد ولنا الحق في مزيد من المحبة والتسامح والسلام.. نريد ممن بقي على قيد الحياة أن يبقى على قيدٍ من الإنسانية وقيدٍ من سلام!

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.