إن النظر إلى مفهوم الزواج، يتوجب عليه ألا يكون تجزيئيا، يُنظر إليه فقط باعتباره دواما للنسل أو إشباعا لشهوة أو في بعض الأحوال الشاذة جعل طرف خادما لطرف؛ إن ماهية الزواج لا تُدرك إلّا بالنظر إليه نظرة شمولية، تحيط به كما تحدث بها العليم الخبير، وهي أن تسكن النفس لزوجها، أو بعبارة أخرى، أن تسكن النفس لنفسها، ذلك أن النظرة السائدة هي تلك النظرة المادية للزواج التي تفسّره ماديا (شهوانيا، جعل الزوج(ة) خادمة للزوج) وهذا ما يجعل حتّى شروط الزواج تصير مادية صِرفة، في حين أن ما يجدر أن يكون حقا، هو أن يُنظر للزواج نظرة روحية، لأن الواقع أن طبيعته الأصلية طبيعةٌ روحية.
الزواج هو عودة للأصل، إذ إن النفس التي خُلقت في الأزل، قد خُلقت منها زوجها، وصارت تلك النفس تحنّ إلى نفسها التي اشتُقّت منها، فإذا وجدتها قرّت عينها وسَكَنت، وإلا ظلّت تلك النفس تائهة في هذا العالم. |
إن الزواج هو عودة للأصل، إذ إن النفس التي خُلقت في الأزل، قد خُلقت منها زوجها، وصارت تلك النفس تحنّ إلى نفسها التي اشتُقّت منها، فإذا وجدتها قرّت عينها وسَكَنت، وإلا ظلّت تلك النفس تائهة في هذا العالم، وولجت عالم الطلاق بعد "زواجها". وما يسوغ القول الآنف حديث مرفوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري ومسلم عن عائشة، يقول فيه: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"، فالنفس بما هي روح تبحث عن روحها، فتتزوجها، لتعود كما كانت في الأزل، فإن ائتلفتا، تعارفتا وأكملتا المسيرة في الزمان إلى الأبد، وإن تناكرتا، اختلفتا.
ولك أن تنظر كذلك إلى التعبير القرآني عن حال المتزوجين باللباس باعتباره أقرب شيء للإنسان "هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ" (البقرة 187). والعرب يقدّمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعا يُهمّانهم ويعنيانهم (سيبويه، الكتاب)، إذ لم تبدأ الآية بأنتم لباس لهن، وإنما استُهِلّت بهن لباسٌ لكم، دلالةً على أن الرجل/ الزوج هو أشد حاجة لزوجه، إذ هو تلك النفس التي اشتُقّت منها نفس أخرى، فإن وجدها اكتمل وجوده وستر كيانه، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على المرأة/الزوج، لكن بالتّبع، لكنّ ذلك لا يعني أن الرجل هو الأصل، كما لا يعني أن الأنثى هي الأصل كما اعتقدت نوال السعداوي، وإنما يعني أن النفس هي الأصل حيث كان الذكر والأنثى وبافتراقهما يكون نقصان النفس وباجتماعهما تكتمل النفس.
فذلك هو معنى الزواج الذي صار مجرّد أرقام في الحساب البنكي تحيل إلى قابلية الأنثى للزواج بالرجل، أو جمال ونسب تحيل إلى مقبولية الأنثى في عين الرجل، فيا حسرة على الروح في مقابل التراب. ويا حسرة على الإنسان الناسي الذي نسي طبيعة خلقه، "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا" (طه 115)، وحسبنا أن نستشهد بالفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في ما أورد من مقدمة كتابه (روح الدين) إذ يقول: "كلّما تأملت أحوال الإنسان في هذا الزمان واستغرقت في هذا التأمل، لم أزدد إلا يقينا بأنه لا كائن أنسى منه، حتى إني لو خُيّرت في وضع تعريفه، فما كنت لأعرّفه بغير كونه (الموجود الذي ينسى أنه ينسى)، ولو خُيّرت في اشتقاق اسمه، فما كنت لأقول غير أنه اشتُقّ من لفظ (النسيان) بدل لفظ (الأنس)؛ وحتّى لو صحّ أن اسمه مشتق من (الأنس)، فما كنت لأعتقد إلا أنه أنس بما يجعلُه ينسى ما لا ينبغي نسيانه، لحرصه على بقاء نسيانه.
لقد صار الزواج مجرّد عقد، وهو، للعجب، ما صار منصوصا عليه في مدونات الأسرة في عالمنا المعاصر، في حين أن الزواج ميثاق، ذلك أن الميثاق كلمة تتضمّن في لسان العرب معاني الوفاء والائتمان والثقة، وهي المعاني التي لا تحضُر في معنى كلمة العقد في لسان العرب. والميثاق، وإن كان قد ورد في القرآن في مواضع عدة، إلا أن من بين المواضع الذي أسندت فيه الصفة، موضع الزواج، بحيث أُسندت له في معرض الحديث عن الطلاق صفة الغليظ، فتدبر ! "وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا" (النساء 21 ).
كلمات الغزل المنتشرة في العالم، والتي يعبر بها المرء عن حبه من قبيل ‘روحي‘، دون وعي منه، هي ليست في الحقيقة استعارة أو حتى غزلا، بل هي الحقيقة الكامنة في نسقه التصوّري، أو بعبارة أبين، هي فطرته. |
وإن مجرد نسيان أن الزواج تلاقي للأرواح، لا للأبدان فقط، وتناسي أن الزواج ميثاق وفاء وأمان وائتمان نفس لنفسها، يجعل الزواج قفصا، لا قصرا، وضيقا، لا سعة، بعبارة أخرى أوضح، لا يكون زواجا بالمعنى العميق للكلمة.
إن الإشكال إشكال منطلقات، فالفرد ينطلق من دركات التراب ويسعى لتحقيق معارج الروح، في حين أن أصل الانطلاق هو الروح ويكمّله البدن، وقد سئل أحدهم عن أصل كلمة حب، فأجاب أنها آخر حرف من كلمة روح وأول حرف من كلمة بدن، فتأمل!
والعجيب في أمر اللغة، أننا نعيش باستعارات، ذلك أننا، كما يقول جورج لايكوف، إننا نتوفر على نسق ذهني استعاري، ويعني هذا أن جزءا هامّا من تجاربنا وسلوكاتنا وانفعالاتنا استعاري من حيث طبيعته، وبهذا لن تكون الاستعارات تعابير مشتقة من ‘‘حقائق‘‘ أصلية، بل تكون هي نفسها عبارة عن ‘‘حقائق‘‘ بصدد الفكر البشري والنسق التصوري البشري.
ومرد هذا الاستطراد إلى مسألة مهمة جدا، هي أن كلمات الغزل المنتشرة في العالم، والتي يعبر بها المرء عن حبه من قبيل ‘روحي‘، دون وعي منه، هي ليست في الحقيقة استعارة أو حتى غزلا، بل هي الحقيقة الكامنة في نسقه التصوّري، أو بعبارة أبين، هي فطرته.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.