شعار قسم مدونات

غباء المستبدين في مواجهة مطالب المحتجين

blogs - احتجاج ريف المغرب ومواجهات مع الامن
"مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا"، كلما تذكرت هاته العبارة التي خطها شوقي في قصيدته "الثعلب والديك"، إلا ووجدتُني متفاعلا بكل جوارحي معها ومع كل أسطر القصيدة، بل وحتى مع ما بين أسطرها من خلال إسقاط كل معانيها على الواقع السياسي المعيش اليوم في عالمنا العربي؛ كيف لا أقوم بعملية الاستحضار والإسقاط وقد "برز من السياسيين الثعالب في ثياب الواعظين" كم هائل منذ انطلاق ما عرف بالربيع العربي سنة 2011، بل ونجد كما هائلا حتى من الواعظين في ثياب الثعالب أيضا. لكن ربما الفرق الوحيد الذي أجده بين ثعالب شوقي والأرطوبونات السياسية العربية، أن الأولى استمرت في مكرها ودهائها حتى أصبحت مكارة، وفي النهاية افتضح أمرها مع الديكة، والثانية استمرت في مكرها وذكائها حتى أصبحت غبية وفي النهاية غرقت في دماء شعوبها.

عرف المغرب منذ ما يقارب الستة أشهر حراكا مجتمعيا ريفيا كبيرا، ابتدئ على وقع ما يسمى ب"طحن مو" وها هو الآن يستمر على وقع ما يسمى ب"بيك يا وليدي"، أعلم جيدا أن القارئ غير المغربي سيجد صعوبة كبيرة في فهم العبارتين غير أن معناهما سهل جدا في لسان العرب، فالأولى معناها اطحنه وأضيفت لها "مو" على أنها "أمه" ولا يختلف العرب على أن لفظ الأم لا ينضاف إلى الكلمة في لهجتها الأصلية إلى للدلالة على صيغة المبالغة وذلك انسجاما مع الأزمة القيمية الأخلاقية التي تعاني منها الحقول الدلالية اللغوية عند الفرد العربي.

عرف المغرب في السنوات الأخيرة ظهور طبقة من الأفراد يسمون حسب اللهجة العامية المغربية ب"الشماكرية/ البلطجية" وهي طبقة مؤمنة كل الإيمان بالضرورة الحتمية لوجوب طاعة السلطات الأمنية لتفريق وقمع المحتجين.

وقد قالها رجل سلطة في مدينة الحسيمة بالمغرب لأحد سائقي حافلة نقل الأزبال بعد أن دخل بائع السمك الراحل محسن فكري داخلها للبحث عن أسماكه المرمية بين الأزبال والذي لم يكن يعلم آنذاك أن مصيره سيكون نفس مصير أسماكه؛ والثانية معناها فيما يبدو "بخ، بخ"، وهي عبارة قالها أحد المعتقلين الريفيين لرجل سلطة بعد استنطاقه واتهامه بمجموعة من الافتراءات التي لم يستطع عقل هذا المسكين تقبلها لينطق بعدها عبارته بعفوية تامة ؛ وعلى عكس سهولة العبارتين لغويا، فإن صعوبتهما كانت كبيرة جدا سياسيا في المغرب.

تعاملت الدولة المغربية مع حراك مدينة الحسيمة منذ الوهلة الأولى بحذر كبير جدا خصوصا وأن الحديث عن الحسيمة وعن الريف عموما عند "المخزن" دائما ما يرتبط بالخلفية التاريخية والدلالات المعقدة في ما يخص العلاقة مع الدولة، ولعل أحداث الريف إبان انتفاضة الخبز سنة 1984 خير شاهدة على ذلك.

حاول المخزن بعد وفاة بائع السمك محسن فكري والانتفاضة الكبيرة التي عرفها المغرب بالعشرات من الاحتجاجات في مختلف المدن، أن يراهن على عامل الوقت لإخماد التوتر ومص غضب الشارع مستعملا كل ما يملكه من لغة الثعالب والدهاء ومؤكدا في الوقت نفسه أن أطروحته لحل المشكل هي أطروحة رشدية تستدعي الحوار مع أبناء الحسيمة والاستجابة لكل ما يطلبونه، داعية إياهم نسيان ماضيهم المعروف بالتهميش والإقصاء والإهمال. لكن مع مرور الوقت واستمرار الاحتجاجات دون توقف، سرعان ما سيظهر أن الأطروحة المخزنية لم تكن بأطروحة رشدية البتة، بل كانت منذ البداية أطروحة ميكيافيلية يسودها المكر لتعود بعد ذلك أطروحة ميكيافيلية يسودها الغباء.

ليس غريبا على الحسيمة لغة التهميش والإقصاء التي تعاملت الدولة بها معها، كيف لا وهي مدينة يفتقد مواطنوها لأبسط حقوقهم في العيش الكريم. من ينظر بعين الموضوعية بل بعين الرحمة والشفقة إلى نقاط الملف المطلبي لحراك الريف سيتأكد جليا أن غباء المخزن في تعاطيه مع الحراك المجتمعي غباء منقطع النظير، فبدل تلبية نقاطه المتجسدة في بعض المطالب الاجتماعية والسياسية والثقافية ورفع ظهير العسكرة، تنصاع الدولة إلى استعمال لغة العنف والقمع والاعتقال والترهيب، مؤكدة أنها صاحبة الجود على المواطن وأن الحقوق هي التي تعطيها وليس المواطن من يطلبها، بانية فلسفتها الغبية على خطاب أشبه بخطاب فقهي لا يقبل التزحزح عن ثنائية حلال/ حرام من خلال ثنائية معنا/ ضدنا.

هذا الخطاب الذي طالما استشرى واشتهر منذ مدة عند السياسي العربي لا يكاد يعرف المغرب في الأيام الأخيرة خطابا غيره، فقبل أيام قليلة قامت السلطات الأمنية بل السلطات "الخوفية" باعتقال مجموعة من نشطاء الحراك بمن فيهم قائده ناصر الزفزافي، معتقدة أنها بفعلتها هاته ستقوم بإخماد النيران المشتعلة و"تبريد الطرح" على لهجة المغاربة، ناسية أن القائد العظيم محمد بن عبد الكريم الخطابي ابن جلدة الريفيين كان صاحب مقولة: "الكفاح الحقيقي هو الذي ينبثق من وجدان الشعب، لأنه لا يتوقف حتى النصر".

ها هي مصطلحات "الشماكري"، "العياش"، " بيك يا وليدي"، "طحن مو"، تنضاف بقوة للقاموس اللغوي العربي الذي سيحتاجه حتما أحفادنا عند دراستهم لمقررات التاريخ في المستقبل، والذي سيخجلون منه كثيرا.

ولأن غباء السياسيين المستبدين في مواجهة مطالب المحتجين غباء غير محدود بل غباء ليس له قلب ولا رحمة ولا شفقة، غباء لا يهتم بالعواقب والنتائج، فهو يراهن على حلفاء ومدعمين؛ حلفاء معني بعضهم بالجانب المادي وآخرون بالجانب المعنوي. عرف المغرب في السنوات الأخيرة ظهور طبقة من الأفراد يسمون حسب اللهجة العامية المغربية ب"الشماكرية/ البلطجية" وهي طبقة مؤمنة كل الإيمان بالضرورة الحتمية لوجوب طاعة السلطات الأمنية لتفريق وقمع المحتجين، مستعملة كل ما تملكه من أدوات حرب لعل أبرزها الأدوات الحادة ومؤكدة أنها في خدمة "المخزن" طالما أن هذا الأخير في خدمتها عبر توفير مناصب الشغل لها، فقبل كل عملية مداهمة وبعدها يربح هذا "الشماكري" أجرا مهما مقابل "عرق جبينه".

أما النوع الثاني فمهمته معنوية بالأساس، كيف لا ولقبه مشتق من فعل "عاش" الدال على العيش والحياة والوجود، فهو كائن بنيته النفسية غريبة جدا وغير مفهومة، المفهوم فيها فقط أنها تعاني اضطرابات الخنوع وقبول الظلم والفقر و"الحكرة"، أما بنية كلامه اللغوية فهي جد مفهومة وسهلة، فلا تكاد تخرج من عبارات "عاش الخبز" "عاش الوطن" "عاش الساسة" رغم حقوقه المهضومة، لهذا سماه المواطن المغربي ب"العياش".

منذ انطلاق الربيع العربي سنة 2011، والقاموس اللغوي السياسي ينتعش بمصطلحات ومفاهيم جديدة تعبر عن ما تعانيه الشعوب من ظلم وقهر، فقد ظهر في سوريا مصطلح "الشبيحة" وظهر في مصر مصطلح "البلطجية" وظهرت في تونس عبارة "هرب هرب" وها هي مصطلحات "الشماكري"، "العياش"، " بيك يا وليدي"، "طحن مو"، تنضاف بقوة للقاموس اللغوي العربي الذي سيحتاجه حتما أحفادنا عند دراستهم لمقررات التاريخ في المستقبل، والذي سيخجلون منه كثيرا بل وكان سيحق لهم إنكارنا من خلاله لولا وجود ناصر الزفزافي وباقي المعتقلين بين سطوره؛ فلا يشفع لهم بوجودهم فيه النكران في ذلك أبدا.

خلاصة القول في نهاية هذا المقال يا "مخزن": "أليس فيكم عاقل؟"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.