شعار قسم مدونات

ثلاثون عمرًا

blogs - الثورة و الشباب

قبل عشرة أعوام من الآن، كنت فتى يقف على مشارف عقده الثالث، أو سمه الأول إن شئت، الثالث من جهة الميلاد، والأول من جهة اكتمال الوعى الذى كنت أظنه كذلك ساعتها، كانت أناملى تضغط بقوة على الأحرف المثبتة فوق أزرار لوحة الحاسوب غضبى من كل شىء، ما زلت أتذكر صورتي وأنا أدون أول كلمات سيقرأها أناس لا يعرفونني هنا على الشبكة، كنت فقط أخبر الجميع أن "عندى عشرون" لكنه ليس خبرا عاديا، كان كخبر الوليد الذى قدم للحياة لتوه، يصرخ ويصرخ معلنا للجميع أنه ها قد أتى.

 

الثورة والحب، كانتا قضيتاي وقت أن كانت الكلمتان ما زالتا تتلمسان طريقهما إلينا من بعيد، من الماضى على الأغلب ليس من واقع نراه عن قريب، كانت "الثورة" قبل أن يكون للكلمة أى مدلول غير ثورات التاريخ، كانت كل ألوان الثورة، اجتماعية، ثقافية، سياسية، ودعوية، ثورة تريد كسر القيود الاجتماعية، وإسقاط الأنظمة السياسية، والخروج على الجماعات والحركات الثمانينية. وكان "الحب" الذى لم أجد له قصصا إلا فى الروايات نسجا من خيال، أو فى القصائد القديمة أثرا من حال قد بلى وزال، كانت الدعوة إلى الحب الذى يشتعل ويصيب القلوب تلو القلوب حرائقا لا تطفئها إلا بيوتٌ تبنى ومجتمع جديد يُعمر على غير الأساس الذى رُبينا عليه.

 

النقمة على الزمان والمكان كان أكثر ما أتقن، تعليق صور أبطال التاريخ وأفذاذه على الحائط والسهر أنظر إليهم ثم ألعن زمانا لست معهم، كان ذلك أفضل ما أقوم به كل ليلة، الوعى الذى صاحبني مذ كنت فى العاشرة وربما قبلها أنى متمايز، أو علىّ أن أكون هكذا أورثني مرارة غير عادية تجاه الزمان الذى يلفني، حتى جعلني أتوقف عن الاعتراف بأننى حى أعيش وأتنفس تلك السنين، عندما بلغت العشرين، كتبت أننى بلغت عشرين صفرا، وقد كان التصفيق حادا على فتى يقرّع الواقع كما يجب أن يكون.

 

من عشرين صفرا إلى ثلاثين عُمرا، عشرة أعوام فقط كفَت أن تحول المعاني والأفكار، أن تبدل الأوراق التى جفت واحدة تلو الأخرى، أن تقلع وتزرع مئات الأفكار، أن تغير كل يوم قطعة واحدة من فسيفساء روحى وعقلي حتى إذا انتهى بى المقام على مشارف الثلاثين نظرت إلى الصورة المقابلة على جدار العشرين فلوحت لصحابها قائلا: وداعا لم يبق فيك منى إلا شبه باهت صغير.. أحيانا جميل.

 

احذر الصور فى المرآة قد تبدو أكثر من ذلك، قد ترى نفسك مرة أو مرتين أو ثلاث، أو ثلاثين،وأنت أصغر كل فكرة تكون عليها تحسب أن أمامك العمر كله كى تسير فيها إلى النهاية، عندما تكبر أكثر تعرف أن كل فكرة أنت عليها هى عمر صغير وحده، يمكن أن ينتهى فى أى لحظة.

 

لم أكن من الذين يتوقفون كثيرا عند الأسئلة، يفنون الساعات بحثا عن الأجوبة، لذا فتحولاتي لم تكن على الفكرة الكبرى التى أعيش من أجلها، لا أعرف أتلك مزية أم عيبا، وجدت نفسى هكذا مطمئن تماما لكونى أحمل هذا الدين وأسير به إلى ربي، وما دون ذلك كله كان فى مهب ريح ذلك العقد العجيب.

 

فكرة الثورة التى كنت أتشدق بها أنبأتنا الحوادث أنها وحدها قاتلة لأصحابها بلا دية، تَطيّر أحلامنا معها كرأس الحسين، وتعلق آمالنا على أعواد مشانقها كجسد ابن الزبير

عندما أتذكر نفسى وقد فعلت جل ما رسمته بعين خيالي آنذاك أعجب، نعم فعلت تقريبا كل ما يحلو لى ولكن كفارس منطلق فى الفلوات يقبض قبضة رمل من كل أرض يمر بها. وقفت على المسرح وقمت تقريبا بكل الأدوار، خطيبا يجيد تزيين الكلمات من ساحات المساجد إلى قاعات المؤتمرات، كاتبا صنعت من حوادثى كلمات قرأها عديد من أجيال الشباب فى طول البلاد وعرضها، ومن وقتها وأنا أدبج المقالات وأبعثرها فى المواقع بين الحين والحين،منتجا لوثائقيات أثمرت منها أربعا قبل أن أتركها لغيرها، ومذيعا ربما لعام أو اثنين، مغنيا كادت أغنيته الوحيدة أن تسجل نصف مليون استماع، ومعلق صوتي كلما سنحت فرصة هنا أو هناك، مديرا وهذه تفسد على كل ما قبلها وبعدها، مصورا أصنع فى كل مكانا ألبوما يحصد الإعجابات، وحتى ممثل فاشل بعد تجربة وحيدة فى فيلم قصير.

 

رميت بسهم فى كل هذا وما رميت، بدأت بخطوات فى كل هذا وما أنهيت، أجلس وأعجم اليوم عيداني تلك عودا عودا فلا أجد فى كل تلك النعم أبقى من صاحبة وبُنية ونذر من معروف أصنعه في أكثر ما أتقنت، أن أهدى لصاحب علم أو فن حقيقي ثابت فيه أداة يُخرج بها علمه أو فنه إلى الناس، أن أكون ذلك الوسيط بين ما أحببت أن أتقنه ولم أجد له متسعا، وبين ما أحب أن يطلع عليه الناس ولا يجدون له وسيلة.

 

ليس تلك الأشياء الظاهرة فقط هى من صنعت من أعوام أعمارا، إنما هناك تلك الأفكار التى كانت راسخة ثم فتنت وعرضت على تجارب الحياة عودا عودا فأى فكرة تجربة أشربتها تسقط فى كياني ورقة حمراء من فكرة كتبتها بدمي كى لا تزول، لكن العاصفات كانت أشد بطشا.

 

فكرة الثورة التى كنت أتشدق بها أنبأتنا الحوادث أنها وحدها قاتلة لأصحابها بلا دية، تَطيّر أحلامنا معها كرأس الحسين، وتعلق آمالنا على أعواد مشانقها كجسد ابن الزبير، تسحق أبنائها كالأشلاء التى تطايرت أمام عيني فى مشاهد الثورة كلها، الثورة ما هى إلا فرصة من فرص كثيرة تأتي لمن هو مستعد أصلا، ونحن لم يكن فينا معشارهذا الاستعداد، كل شىء سقط فى أيدينا، ثم كل شىء سقط من أيدينا، لم تكن أيدينا تتقن بعد فن الإمساك بشىء.

 

أفكار النجومية التى جزمت زمانا أنها ما تنقص مجتمعنا، أن نصنع الرموز ونعقد بنواصيها الآمال والغايات، أن نعرف قصصا للحب غير التى نراها فى الأفلام، وأن نتابع من حياة المفكرين والدعاة غير الذى نقرأه منهم فى الكتب، أن نصنع لأطفالنا أبطالا غير أولائك الذين يرونهم فى عالم الكارتون، أن نشعل الأضواء العالية ونسلطها على خشبة المسرح ونقذف بالشباب والفتيات ذوى الألق كى يكونوا مثلا لمن خلفهم. لما انفتحت الدنيا وظهر علينا من السبل ما يسر تلك النجومية، ما كان بروزنا فى غالبه إلا فتنة، أدركت أن الكثير من الخفاء يقي مصارع الأبطال تحت الأضواء القاتلة.

 

كل أفكار الحب التى صبغت بها نفسى صبغا كُشف لى عن كثير من زيفها الذى لم أكن أعرف حتى أننى أخدع نفسى به، صاحبتي التى وهبني الله إياها كانت هى اليد التى أعادت تشكيل روحي فى عالم الفكر والشعور هنا، لم أكن أتورع فيما قبل عن أن أخوض فى أمر الحب، أجيب كل سائل عن مسائله، وأبين لكل مستفتٍ ما استشكل منه وألغز، أشرح لكل مستوضح حقيقة المرأة وعوالمها ومكنونات شعورها، رسما من خيال فى خيال، لا يمس الواقع ولا يدانيه بأى نذر، كل ما وجدته على يديها كما أقول دائما كان مخالفا لكل التوقعات، لكنه افضل من كل الأمنيات.

 

قلبي اليوم بصير، بصير وهو يرى بعين صاحبتى حقيقة الناس الذين اكتفيت بأن أرسم لهم صورا من نسج خيالي وأنا فى برجى العالي بدلا من أن أنزل إليهم وأرسم صورهم الحقيقية، عينى اليوم أكثر حدة وهى ترى الحب حالة خاصة تتعدد بعدد نفوس المحبين، نفسى اليوم أكثر طيبا وقد بدل الله جدبها ريا دائم الوصال، حبا خالصا أتقلب فى نعماءه وأذوق من رغائده كل يوما ألوانا من الرضا والهناء.

 

كل هذه التحولات جعلت منى إنسانا جديدا، لا يرى فى ذاته القديمة السوء بقدر ما يرى فيها نزق البدايات المعهود، الذى والله لو خيرت بينه وبين ما وصلت إليه اليوم لما رضيت أن أبدأ عشريني بما انتهى إليه الساعة

حتى علاقتى مع الخالق التى كانت أقرب للجندى الذى يريد أن يصبح قائدا فى جيشه، وقُرباتي التى لا يستتر منها شيئا فأعلم إن كنت مشركا الناس فيها وإعجابهم أم مفردها له، تغيرت تلك العلاقة على يد هديته الأغلى بعد صاحبتى، ابنتى التى رأيت فيها أول ما رأيت معاني الربوبية التى ضربت بينى وبينها حجب العمل للأمة والنهضة والطريق إلى العالم وأستاذيته.

 

كل هذه التحولات جعلت منى إنسانا جديدا، لا يرى فى ذاته القديمة السوء بقدر ما يرى فيها نزق البدايات المعهود، الذى والله لو خيرت بينه وبين ما وصلت إليه اليوم لما رضيت أن أبدأ عشريني بما انتهى إليه الساعة، فذلك الطريق كان صعبا، ذلك الطريق كان جميل.

 

الليلة أوارى كل أفكارى القديمة الثرى، وأعلم أن غدا ينبت منها خلقا آخر، اليوم أودع كل الصور القديمة ألبوم ذكرياتي متمتا بكل المحامد التى تليق بوجه معطيها، الليلة أبدأ عقدى الرابع الذى لا أعرف هل يكون عمرا واحدا جديدا أم أعمارا أخرى لا تُحصى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.