شعار قسم مدونات

الانحياز لقَطَر.. محاولة للبحث في سؤال الأخلاقية

مدونات - قطر

في متابعتي لتفاصيل الحملة الشعواء التي بدأتها ثلاث دول خليجية في الخامس من يونيو/حزيران الحالي ضدّ قطر لم يُمكنني سوى أن أستذكر عبارة قديمة جديدة طالما قوبلت بها وأنا أعبّر عن مواقفي من عدة قضايا مختلفة في سياقات متعددة، لقد كانت تلكَ العبارة تختزل رؤية محاوري الذي كان لا ينظر إلى ما أقوله إلا باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من أجندة وخطة مؤاماراتية أساسها ومرجعيتها قطر، لا أذكر عدد المرات التي قُذفت بها هذه العبارة في وجهي كالقنبلة وتضمن متنها اتهامي بكوني أجندة قطرية.

"أنتِ أجندة قَطَرية"، قيلت لي كثيراً وفي مواضع عديدة، ومن المواضع التي ما زلتُ أذكرها جيّداً موضع أوّل عبّرتُ فيه عن دعمي وانحيازي الكامل للثورة السورية عندما كانت في بواكرها وانطلقت كثورة سلمية انطلقت ضدّ نظام قمعي ومستبدّ، وموضع ثانٍ عبّرت فيه عن وقوفي ضدّ الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي وقام على إثره بعزل أوّل رئيس مدني أتت به صناديق الاقتراع عبر انتخابات ديمقراطية شهد لها القاصي والداني بالنزاهة والشفافية، وموضع ثالث عبّرتُ فيه عن إدانتي لمجزرتيْ رابعة العدوية والنهضة اللتان ارتكبتا بحقّ أشخاص تجمهروا في شكل اعتصام سلمي وقامت وسائل الإعلام التابعة لنظام الانقلاب آنذاك بتجريدهم من إنسانيتهم وشيطنتهم لمجرّد أنّهم إسلاميين.

 

نسبية الحقّ تعني -في حالة الوقوف مع طرف ضدّ الآخر- أنّ انحيازي له لا يعني أنّني أراه حقّاً بالمطلق لكنّ يعني أنّني أرى اصطفافي إليه أقرب إلى الحقّ، وثبات مرجعياته يعني أنّني أملك قيم أخلاقية مرجعية واضحة ومحدّدة أعود إليها لأحاكم موقفي في كلّ مرّة

وموضع رابع -أيضاً- قوبلت فيه بنفس العبارة عندما كنتُ أُعلن -بعد متابعتي لثورات الربيع العربي- عن انحيازي لمنبر الجزيرة الإعلامي ورؤيتي فيه باعتباره منبراً وجد لمناصرة الإنسان العربي ودعم قضاياه وحقّه في الحريّة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وموضع خامس وأخير كنتُ أعبّر فيه عن دعمي لأطروحات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات؛ هذا المركز العريق الذي تحتضن قطر مقرّه ويُشرف على إدارته الباحث والمفكّر الفذّ عزمي بشارة، وتُشكّل أطروحاته وإصدارته من الكتب والمجلات والأوراق مرجعيات بحثية غاية في الدقة والموضوعية يستفيد منها كبار الباحثين في مجالات السياسة والاجتماع وغيرها في العالم العربي. 

وإنّ هذه العبارة التي قيلت لي في هذه المواضع وغيرها دفعتني للبحث عن السبب من ورائها وما تُخفيه، فنعتي بهذه العبارة هو أكبر دليل على أنّ هناك صبغة معينة للسياسة القطرية يدفع بمحاوري عندما يراني متفقة مع بعض أجزائها إلى اتّهامي بأنني متماهية معها تماماً وبأنني أُصبح أجندة لها، أيْ مُصدّرة لرؤيتها وحاملة لفكرتَها بشكل كّلّي أعمى دون علم أو دراية وبلا تمحيص أو تفنيد.

وهنا وجب التنويه إلى أنّ اتفاقي مع سياسات قطر لا يعني أنني أتماهى معها بالكلية، وإلى أنّ تأييدي لها لا يعني أنني أتبناها بالمطلق في شقيها الداخلي والخارجي، وهذا التنويه نابع من فهمي للقواعد والقيم الأخلاقية في السياسة، فبعض الأشخاص يرون في الحديث عن القواعد والقيم الأخلاقية في السياسة أمر عبثي، يرون أنّ السياسة كلّها قذارة وأنّه يجب على الإنسان الذي يُريد أن يبني رأياً في مضمارها أن يخلع عنه أثواب قواعده الأخلاقية كلّها ويدخل إليها بعد أن يرتدي أثواب قواعده المصلحية والنفعية والانتهازية.

وضمن هذا السياق، فلا يُمكنني أن أنكر حجم التعقيدات والتشابكات التي تصطبغ بها أي مشهدية سياسية، لكنّني أستند في تفكيكي لهذه المشهدية إلى قاعدة تقول بنسبية الحقّ وثبات مرجعياته، نسبية الحقّ تعني -في حالة الوقوف مع طرف ضدّ الآخر- أنّ انحيازي له لا يعني أنّني أراه حقّاً بالمطلق لكنّ يعني أنّني أرى اصطفافي إليه أقرب إلى الحقّ، وثبات مرجعياته يعني أنّني أملك قيم أخلاقية مرجعية واضحة ومحدّدة أعود إليها لأحاكم موقفي في كلّ مرّة لأرى إن كان ينسجم مع تفضيلاتي في الانحياز للحقّ على الرغم من إقراري بنسبيته.

إنني مع قطر لا باعتباري أجندة تحمل سياساتها وتدعمها وتتبناها في حالة من التماهي والتأييد المطلق اللاواعي، بل كإنسانة لديها مرجعيات وقيم أخلاقية تحتكم إليها في بناء انحيازاتها وتفضيلاتها السياسية

هذه القيم الأخلاقية -بالنسبة لي- لا تخرج عن أربعة أمور هي الحرية والعدالة والإنسانية وفلسطين، كلّ طرف يقترب من هذه المرجعيات يستحقّ مني أن أوليه بالانحياز والعكس صحيح، سيقول البعض بأنّ فلسطين ليست قيمة أخلاقية، فأردّ بأنّ مرجعيتها كقيمة أخلاقية تتأتى من كونها تُمثّل بالنسبة لي وطن وقضية، وبالتالي فإنّ انحيازي الدائم لها وانحيازي لكلّ من يدعمها أو يدعم مشروع مقاومتها هو انحياز باطني وموجود بكلّ الأحوال، وهو انحياز ذاتي خارج عن كلّ الأطر الموضوعية لكنّ لا يُمكن نفيه أو تحييده بأيّ شكل من الأشكال. 

أما لماذا هذا الحديث الطويل عن السياسة والقيم الأخلاقية؟ فهذا كلّه لأقول بأنّني أجد بأنّه من الإسفاف أن أقف ضدّ قطر لأنّها -وبشكل تبسيطي سريع- دعمت هي وإعلامها مسيرة الثورات العربية ووقفت إلى جانب حقّ الشعوب في الحرية والعدالة، ولأنّها وقفت وما زالت بجانب المقاومة الفلسطينية، ولأنّ فيها أجواء انفتاح مقبولة لحرية الفكر والتعبير على الرغم من عدم اتفاقي مع كامل سياساتها داخلياً، هذه هي نسبية الحقّ كما أعرفها وأبني انحيازاتي على أساسها دائماً، وهذا هو السبب الذي سيدفعني لأقول بأنني مع قطر لا باعتباري أجندة تحمل سياساتها وتدعمها وتتبناها في حالة من التماهي والتأييد المطلق اللاواعي، بل كإنسانة لديها مرجعيات وقيم أخلاقية تحتكم إليها في بناء انحيازاتها وتفضيلاتها السياسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.