شعار قسم مدونات

اجعلوا يونيو نهاية فضائح ماي

مدونات - تيريزا ماي
تضع حرب الانتخابات البرلمانية البريطانية أوزارها وينفض الغبار عن نتائجها لتخرج إلينا تيريزا ماي منكسرة الجناح وقد خسرت الأغلبية التي كان يحظى بها حزبها في البرلمان. فاز حزب المحافظين ب 318 مقعدا من مجموع 650، خاسرا بذلك 13 مقعدا عما كان عليه قبل انتخابات الثامن من يونيو 2017. لقد أرادت ماي بالدعوة المفاجئة للانتخابات أن تحصل على الأغلبية الساحقة التي تؤهلها إلى تطبيق سياساتها الداخلية والخارجية من دون عراقيل من المعارضة. أما حزب العمال بقيادة جيريمي كوربن فقد حصل على 262مقعدا مضيفا بذلك 32 مقعدا عما سبق وضاربا بكل توقعات الإخفاق عرض الحائط.

أعلنت ماي عن الانتخابات في ظل معطيات وافتراضات عديدة منها ما يلي:
أولا: انتفاش "الأنا" عند السيدة ماي فاستطلاعات الرأي كانت تعكس شعبية واسعة لها، انعكس هذا في إصرارها على تقديم نفسها كأساس للانتخابات، فهي، بزعمها، من تمثل القيادة القوية الثابتة التي ستقود سفينة الخروج من الاتحاد الأوروبي بنجاح، إنها رمز الاستقرار والحزم في السياسات. وتبعا لذلك اتخذت حملتها أسلوب التهجم على شخص منافسها "كوربن" رئيس حزب العمال وتصويره كقيادة هزلية هزيلة لا يمكن الوثوق بسياساتها الأمنية أو الاقتصادية. وفي ظل الهجوم الإجرامي في كل من مانشستر ولندن انتعش بعبع "الإرهاب" والتخويف من "الآخر" في الحملة الانتخابية لماي، ومع انتفاخات الأنا لديها صارت تتوعد بتجاوز قيود "حقوق الإنسان" متى ما استدعى الأمر ذلك بحيث يصير تقييد حرية الأشخاص المشكوك في أمرهم ممكنا من دون أحكام قضائية تدينهم بذلك.

نجاح كوربن لا يكمن هنا في تحصيل الأغلبية البرلمانية، ولكن في ثباته كقائد للحزب وتحقيق زيادة معتبرة من المقاعد حتى بات أعداؤه بالأمس يعتمدون عليه في الحفاظ على مقاعدهم اليوم.

يبدو أنها لم تستوعب حقيقة أنها ليست في بلاد عربية ينام فيها الحاكم ويستيقظ على مزاج إصدار قرارات بالسجن طويل المدى وغرامات كاسرة للظهر لمجرد إبداء رأي معارض بتغريدة هنا أو هناك. كما أنها لم تستوعب بأنها ليست في بلاد ينتخب فيها الناخبون على "برنامج فخامته" ويكفيهم ذلك فخرا وعزة وكرامة بالقيادة القوية المتفردة وإن سلخت جلودهم بسياساتها الجشعة.

ثانيا: الخسارة التي أصابت حزب العمال في الانتخابات المحلية وعزو ذلك إلى ضعف القيادة لدى كوربن الذي واجه حربا شعواء من داخل حزبه ومن خارجه فور توليه رئاسة الحزب. كانت هناك محاولات للانقلاب عليه ولكنها باءت بالفشل. ومن أقبح التهم الموجهة إليه تعامله مع "المتطرفين" و"الإرهابيين" وتسامحه مع المعادين للسامية، وكان ذلك بناء على مسيرته السابقة في مساندته لحركات التحرر ومنها دعمه لحق الفلسطينيين في الحرية وفي العيش الكريم ومعارضته لغزو العراق وحواراته من قبل مع حزب شين فين الإيرلندي.

ثالثا: القناعة المتداولة بأن الفئة الشبابية لا تنتخب حتى وإن عبرت عن آرائها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لكننا إن رجعنا إلى استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي فإننا نجد أن هذه الفئة قد أصابها الغم حين قرر مصيرها من طرف فئة العجائز. لقد طالب الشباب حينئذ بتخفيض سن الانتخاب إلى عمر 16 عاما بدل 18 عاما. لم يجعل حزب العمال الخروج من الاتحاد الأوروبي نقطة مهمة في برنامجه الانتخابي، ولكنه قدم وعودا بإلغاء رسوم الدراسة الجامعية التي ترهق كاهل الشباب الجامعي بالديون، كما أنه وعد بإلغاء عقود العمل المعتمدة على عقود الدفع الساعي والتي يعاني الشباب من تبعاتها.

وفوق كل ذلك فإن الرجل لم تسجل عنه خروقات لمبادئه، رغم الحملة المسعورة ضده، كما لم تسجل عنه تراجعات عن وعوده كما فعل الحزب الليبيرالي الديمقراطي من قبل عند تحالفه مع حزب المحافظين وطعن الطلبة في الظهر بعدما انتخبوه للوقوف ضد رفع رسوم الدراسة الجامعية. لقد نجح كوربن صاحب 68 عاما في استقطاب الفئة الشبابية وتفعيل صوتها الانتخابي. إنها فئة تبحث عن الصدق والإنسانية ومخالفة المستقر السياسي وقد وجدت في شخصية كوربن الشخصية الثائرة التي تواجه الآلة الإعلامية والمؤامرات السياسية لأجل الوفاء لمبادئها، كما وجدت في برنامجه ما يخدم حالها ومستقبلها في الدراسة والعمل والسكن والصحة.

رابعا: الفرضية المتداولة سابقا بأن انحسار شعبية حزب الاستقلال اليميني المتطرف "يوكِب" ستكون لصالح حزب المحافظين باعتبار أن الحزب قد نجح في حملته ضد الهجرة والخروج من الاتحاد الأوروبي على أساس استقطاب الناخبين من وعاء حزب المحافظين. لكن النتائج بينت بأن الكثير من الناخبين لبركسيت قد توجهوا نحو حزب العمال أيضا. وهذا يطرح تساؤلات حول حقيقة التصويت، هل كان رغبة في الخروج من الاتحاد الأوروبي أو أنه كان بالنسبة للبعض مجرد احتجاج على النظام السياسي القائم؟ بالنسبة للفئة المحتجة على المؤسسات القائمة فإن كوربن قد يمثل لهم شخصية ثائرة نحو التغيير والدعوة إلى العدالة الاجتماعية ومحاربة الخصخصة. إنه يمثل لهؤلاء الشباب الشخصية السياسية القريبة من نبض الواقع المعيش وهموم المواطنين.

لقد دعت ماي إلى انتخابات مبكرة بقصد سحق المعارضة، والتمكن من السلطة بفرض رؤيتها وسياساتها وسجلت أثناء مشوارها ذاك تراجعات في مواقفها بطريقة وصولية انتهازية بحسب مصالح "الأنا" لديها. إن حبها للسلطة المطلقة أطلق عنان خيالها فترفعت عما لديها من أغلبية حزبية، ومساندة كبيرة في استطلاعات الرأي، ودعم منقطع النظير من مساحة واسعة من الصحافة البريطانية فسقطت بذلك في جبّ حكومة الأقلية.

كم من الوقت ستصبر شعوبهم على هذا الذل وتلك المهانة؟ ومتى يستوعب هؤلاء بأن قيادتهم ليست لزريبة دواجن، بل لبناء كرامة الإنسان؟ وأيّ كرامة تحت قيادة بات وليّ أمرها زير نساء عربيد عنصري يعاديهم ويحتقرهم كترمب؟

أما خصيمها كوربن فقد تمّ تشويه صورته بكل طريقة ممكنة وقد راهن الجمع الإعلامي والسياسي على خسارة حزب العمال خسارة ساحقة تحت قيادته، ولكنه رفض الانبطاح وفرض نفسه وقيادته وخرج مبتهجا بنصره النسبي. أما خصومه فمنهم من استجمع مروءته واعتذر عن سوء تقديره، ومنهم من واصل الخصومة بطريقة باهتة ولومه على عدم الحصول على أغلبية تؤهله لتكوين حكومة، ومنهم من اضطر إلى تنفيذ وعده أمام الملأ بأكل أوراق كتابه حين حقق كوربن نصرا يفوق تحدي 38٪ الذي وضعه الكاتب لقرائه.

إن نجاح كوربن لا يكمن هنا في تحصيل الأغلبية البرلمانية، ولكن في ثباته كقائد للحزب وتحقيق زيادة معتبرة من المقاعد حتى بات أعداؤه بالأمس يعتمدون عليه في الحفاظ على مقاعدهم اليوم. كما أنه نجح في تحقيق نسبة إقبال انتخابية كبيرة لفئات متنوعة كانت معرضة عن المشاركة الانتخابية. لقد غيّر كوربن موازين القوى وكسر أنف التغطرس عند ماي كما هزّ الثقة في العديد من فرضيات العمل السياسي ببريطانيا. ولقد أعطى بذلك نموذجا حيّا للشباب أن احتمال النجاح وارد رغم عراقيل النظام القائم. كما وضح حاله للشباب المسلم بالأخص بأنه ليس الوحيد الذي يعاني من التشويه الإعلامي، كما أن التشويه الإعلامي ليس عذرا للانسحاب والانعزال والخسارة، بل الواجب الثبات والمواجهة والاجتهاد والعمل الدؤوب.

تأملت المشهد وانكسار ماي وانحسار مدّ طغيانها وأدرت وجهي نحو بلاد عربية يقرر فيها الحاكم ما يحلو له بين عشية وضحاها فيقطع الأرحام ويراهن على المقدسات ثم يهدد كل من ينبس ببنت شفة بالسجن، ورغم كل ذلك تجد أبواقا تسبح بحمده على المنابر حتى باتت إسرائيل تبارك أعمالهم! فكم من الوقت ستصبر شعوبهم على هذا الذل وتلك المهانة؟ ومتى يستوعب هؤلاء بأن قيادتهم ليست لزريبة دواجن، بل لبناء كرامة الإنسان؟ وأيّ كرامة تحت قيادة بات وليّ أمرها زير نساء عربيد عنصري يعاديهم ويحتقرهم كترمب؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.