شعار قسم مدونات

قطر.. الشحم والورم

blogs قطر
للمتنبي بيتيْن شهيريْن في سياق معاتبته لسيف الدولة الحمداني الذي أطاع فيه كيد الوشاة، وازدراه..

أعيذُها نظراتٍ منك صائبةً ــــــ أن تحسب الشحمَ فيمن شحمُهُ ورمُ
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرِهِ ــــــ إذا استَوت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ ؟!

في البيت الأول يعاتبه المتنبي بمدحٍ لا يخلو من ذم، فيعبر عن صدمته من أن عقل سيف الدولة الذي كان دائمًا ما يراه صائبًا قد انخدع بهؤلاء الوشاة، فأعطى كلماتهم في حق المتنبي قدرًا لا تستحقه الكلمات ولا أصحابها، فكان حال سيف الدولة بتشبيه المتنبي، كمن رأى شخصًا منتفخ الجسم، ضخم الجثة، فظنَّه مفتول العضلات، راسخ البنيان، بينما في حقيقة الأمر أن هذه الانتفاخات هي دهون وترهلات تثقل الجسم وتضعفه، ولا تصمد للعدو ساعة !

أما في البيت الثاني فقد انتقل إلى الذم الذي لا يخلو من تودد، فيعاتب سيف الدولة عتابًا قاسيًا مضمونه أن الأخير سفَّه من عقل نفسه عندما ظن في وشاة المتنبي خيرًا، فبدا كأنه فقد قدرته على الحكم الرشيد، والتمييز بين النور – الذي يتمثل به المتنبي نفسه – والظلام الذي يمثل وشاتَه وأعداءَه في بلاط سيف الدولة.

لا خلاف بين الجميع على أن قطر لا تريد أن تكتفي بدور الدولة المرفّهة التي توفر لحكامها ومحكوميها ومقيميها رغد العيش وكفى. وهذا التوجه لا أدري لماذا يمكن لعاقل أن يرفضه كمبدأ

أظهرت الأزمة الخليجية الأخيرة، الكثير من كوارث الشخصية والواقع العربي الحديث، لكن لا يتسع المقام لعرضها جميعًا، ولذا فسأكتفي بالتركيز على إحداها وهي فقدان الكثيرين للحد الأدنى من التفكير المنطقي، والحكم الصائب على الأمور. فرأينا مستوىً في غاية الانحدار في الربط غير المنطقي بين المقدمات والنتائج. وعدم بذل الجهد في البناء المنطقي للأفكار والحجج، والاكتفاء بالصوت العالي والإلحاح على العقول بالتكرار الكثيف لحجج غير منطقية لتنفذ للعقول بالإكراه.

فعلى سبيل المثال:
1. كان من المنطقي أن تنتهِ الأزمة في مهدها بعد نفي قطر للتصريحات المنسوبة لأميرها، لكن استمر الإعلام المضاد في التعامل معها كأنها حقائق لأيام، وتخصيص ساعات طويلة من التحليل والترسيخ لها.

2. الربط بين تنظيم داعش الإجرامي، الذي ساهم بشكل مباشر وغير مباشر في قتل آلاف مؤلفة من المسلمين وسواهم من الأبرياء حول العالم، وتخريب مئات المدن والقرى ليس أولها الرقة السورية ولا آخرها الموصل العراقية، وحركة المقاومة الوطنية الإسلامية حماس والتي لم تمس بندقيتها سوى الصهاينة وطابورهم الخامس، وحركة سياسية سلمية مهيضة الجناح كحركة الإخوان المسلمين لم تستطع الدفاع عن نفسها ضد استئصال شبه تام في مهدها في مصر. وضع خصوم قطر كل هؤلاء وغيرهم تحت العنوان الفضفاض المسمى بالإرهاب، والذي لا يوجد تحديدٌ منطقيٌّ له، فيفصِّلُه كل صاحب هوىً على مقاسه. واتهموا قطر برعاية الجميع.

إلا أنه من أشد الحجج في لا منطقيتها وانتشارها، والتي ساقها خصوم قطر في تبرير استهدافها العبثي الذي مسّ مصالح الشعوب الخليجية لأول مرة في تاريخ خلافات البيت الخليجي في الأزمة الأخيرة، هو أن قطر تحاول أن تلعب دورًا أكبر من حجمها الصغير، ومن طاقة شعبها الذي يتجاوز عدده ربع مليون بقليل.

لا شك أن قطر أثارت ولا تزال تثير الكثير من الجدل والتكهنات والآراء شديدة التباين نتيجة التوجه المختلف لقيادتها منذ أكثر من ٢٠ عامًا، بوضع نفسها على الخريطة السياسية والإعلامية والنفوذية بقوة من بوابة الرهانات المخالفة للتوجه الخليجي والعربي السائد، ومن بوابة استغلال السموات المفتوحة للوصول لكل بيت من خلال مشروع الجزيرة الذي كان جديدًا على الواقع العربي، والذي يعد بدون مبالغة أهم مشروع تثقيفي إعلامي عربي في العصر الحديث. وكذلك من خلال اللعب على التناقضات بين مختلف القوى في المنطقة والعالم، والاحتفاظ بأوراقٍ لدى هذا الطرف وذاك.

لكن لا خلاف بين الجميع على أن قطر لا تريد أن تكتفي بدور الدولة المرفّهة التي توفر لحكامها ومحكوميها ومقيميها رغد العيش وكفى. وهذا التوجه لا أدري لماذا يمكن لعاقل أن يرفضه كمبدأ. لا ضير على صغير الحجم أن يصنع لنفسه موقفًا كبيرًا في عالم لا تقف فيه أحجام التأثير على الحجم الجغرافي والسكاني فقط، إنما لأوراق القوة الناعمة السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية القول الفصل في أحيانٍ كُثر.

وأيهما أفضل.. كيان صغير يحاول أن يصنع لنفسه حجما من خلال مواقف أغلبها – وليس كلها بالطبع – جاء مناصرًا لقضايا الأمة الكبرى كقضية فلسطين، ومقاومة الكيان الصهيوني العدو الأولى بالعداوة، ودعم طموحات الشعوب العربية في ربيعها المغدور.

 

عالم البشر لا يصلح لأحكام الأبيض والأسود، لكن يمكن بسهولة لصاحب الحد الأدنى من العقل والمنطق تمييز الرمادي الأنصع بياضًا، من الرمادي حالك السواد. ويمكن بالطبع تفرقة الشحم من الورم

وكما ينفق الكثير على الرفاهية الاستهلاكية لحاكميه ومحكوميه، فإنه ينفق الكثير على الريادة الخيريّة والإعلامية والثقافية والتعليمية والطبية… الخ. أم كياناتٌ متضخمة الحجم المكاني والسكاني، لكنها أصبحت تابعة لا متبوعة، وتخلَّى القائمون عليها عن كل شرف في الفعل أو في الخصومة، وأصبحت في الذيل في كافة المؤشرات الإنسانية، وأصبح الملايين من شبابها يعتبرونها سجنا كبيرا للروح والطموح. وكيانات أخرى وفرت لشعوبها رفاهية مادية استثنائية، لكنها في رهانات التأثير أخدت صف الظالمين ضد المظلومين، وأنفقت بسخاء لتدمير دول الربيع العربي وجعلها خريفًا للاعتبار لكل من تسوّل له روحه النبيلة وكرامته أن يفكر في الثورة والتغيير.

عالم البشر لا يصلح لأحكام الأبيض والأسود، لكن يمكن بسهولة لصاحب الحد الأدنى من العقل والمنطق تمييز الرمادي الأنصع بياضًا، من الرمادي حالك السواد. ويمكن بالطبع تفرقة الشحم من الورم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.