شعار قسم مدونات

أسطورة العرب

blogs - camels
ما زالت عبارة "بلادُ العُرب أوطاني" تقبع في الصف الرابع، وتحديداً في كتاب اللغة العربية لم تغادره. وكمثلها الآية القرآنية (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، لا تزالُ في كتاب التربية الإسلامية تأبى مفارقته. غادرتا على استحياء حناجر من صنعوا في مخيلتنا حُلُماً مشوشاً عن وطنٍ واحدٍ حُدوده من بغداد إلى "تطوان".. كم كنا ساذجين حينما كانت حناجرنا تصدح بها مرددين خلفهم،، وكم كانت أحلام يقظتنا عقيمةً لا روح فيها!

ما زلتُ أذكُر ذاك المعلّم عندما بدأ يتحدث عن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. لقد تملّكته النشوة وهو يشرح الدرس فاسترسل في وصف حال العرب، وكيف كانوا قبائل متناحرة. وأن الأوس والخزرج، ومن بعدهم القبائل العربية، أصبحوا قوةً لا تُقهر بالاتحاد… كانت قصته لعقولنا الساذجة حُلماً أسطورياً كخرافة حرب طروادة!

لم أخبر أحداً سابقاً كم مللّتُ من القصة التي رواها لي جميع من درسوني اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافيا والاجتماعيات، وحتى خطيب الجمعة على المنبر، رغم أنهم أتقنوا روايتها تماماً كما أتقنوا خداعي عندما لم يخبروني بأن الاتحاد خُرافة.

توسلت لـ "أخيل"  و"يوليسيس" علّهم يسرُدوا لي كيف اتحاد اليونان ضد الطرواديين، لكنهم نعتوني بالمتهور، وأخبروني أنّ عوالمهم المثالية لا يسكنها إلا من عرف الحكمة.

كانت قصة الرجل الذي جمع أبناءهُ حينما دنى أجلهُ وناول كلاً منهم بدايةً عصا منفردةً فكسرها، ومن ثم أعطاهم العصيي مجتمعةً فعصى عليهم كسرها لاتحادها. كانوا يستمتعون بسردها وكأنهم يمتلكون كنزاً من المعارف. لكن في الواقع كانت تلك القصة كسواها، حكاية سردوها لنا لتملأ وقت الحصة… كانت خرافيةً لدرجة أن البعض أحبّها في زمن السذاجة كما أحبّ عنترة عبله!

بالمناسبة، كم من المرات أوحى لي شعرُ عنترة العبسي عن البطولة أن أكتب ملحمةً أُسطّر فيها بطولات العرب عبر التاريخ، وأن أجعلها كبيرةً بحجم الدول العربية، عديدة الأسطر بتعداد سكانها، عظيمة الشأن كعظمة تاريخها الإسلامي.. لكنني كلما هممتُ بالبدأ كان خيالي يُحبطُني، ولم يساعدني إلهامي أن أنظُم ولو سطراً واحداً. توسلت لكل من استطاع لا وعيي أن يطرق أبواب ممالكهم حيثُ الإلهام، لكنهم ردّوني وقالوا لي لن يكون لك "إلياذة"، فأنت لست "هوميروس!" تأملت ملياً فيما قولوا.. أدركتُ بأن أساطير هوميروس هي الواقع، وواقعي أنا العربي هو الخرافة!

قذفني أسيادُ الشعر إلى "الزير سالم" لانتمائي لقوميّته وتراثه. تفحصت ما تبقّى منهُ فلم أجد سوى أخبار "داحس والغبراء" والفُرقة بين العرب. توسلت لـ "أخيل" و "يوليسيس" علّهم يسرُدوا لي كيف اتحاد اليونان ضد الطرواديين، لكنهم نعتوني بالمتهور، وأخبروني أنّ عوالمهم المثالية لا يسكنها إلا من عرف الحكمة. وأنّ عوالم الحكمة حُرّمت على المتخاصمين.

كم استفزوني بهذا القول، ليس لأنني لم أستطع الولوج إلى ممالكهم، ولكن لأنهم أعادوا بلُغتهم صياغة ما علمني رسولي محمد صلى الله عليه وسلم وتجاهلتهُ عن الفوز بممالك الحكمة حين قال: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.) رواه مسلم ( 2565 ).

كانت قصة الرجل الذي جمع أبناءهُ حينما دنى أجلهُ وناول كلاً منهم بدايةً عصا منفردةً فكسرها، ومن ثم أعطاهم العصيي مجتمعةً فعصى عليهم كسرها لاتحادها. كانت حكاية سردوها لنا لتملأ وقت الحصة.

تيقّنتُ بأنّي لم أكن أبداً أحتاج لطرق أبواب ممالك الإغريق وأساطير الغرب. أغلقتُ ملحمة هوميروس، وحدقتُ في الليل المنتشر حولي، فأتاني صوت امرؤ القيس:

ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ

عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي

فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ
وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ

ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي
بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.