شعار قسم مدونات

ويسألونك عن كتاب الأغاني

blogs - مكتبة
سألني كثيرٌ من الأصدقاء الفيسبوكيين عن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وألحّوا عليّ في الكتابة عنه ليكونوا على بيّنة من أمرهم، بعدما ضاقوا ذرعًا بفتاوى المتنطّعين الذين ينتسبون إلى العلم الشّرعي بزعمهم، وكأنّ الأدب وما جاوره رجس من عمل الشيطان الذي ينبغي أن يتجنّبه من كان تقيّا وإلا سيدخل إلى جهنّم مع الدّاخلين، أو لأنّهم سمعوا من شيوخهم أنّ أبا الفرَج كان متشيّعا، علمًا أنّهم لا يُفرّقون بين تشيّع الأقدمين الذين يقدّمون عليّا على غيره من الصّحابة دون طعن أو لمز أو كراهية، وبين تشيّع الرّافضة التي لا ترقب في صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاّ ولا ذمّة.

ومن العلماء الذين أطالوا ألسنتهم في الأصبهاني ابنُ الجوزي في تاريخه (المنتظم) إذ قال: ومثله لا يُوثق به، فإنّه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمّل كتاب الأغاني رأى كلّ قبيح ومنكر.

قلتُ: ابن الجوزي رحمه الله دومًا يهاجم أهلَ الأدب والشعر بكلّ نقيصة، لذلك لا ينبغي أن يُسلّمَ له بكلّ ما يقول، فالأدب والنّقد له أهله وأئمته.. أمّا ابن الجوزي فليبقَ في عالم الوعظ، والعلم الشّرعي الذي له فيه أوهام ذكرها الذّهبي وغيرُه ليس هذا مقام سردها. بل إنّه هاجم حافظ المغرب ابن عبد البرّ الأندلسي ووصفه بالجهل في كتابه (صيد الخاطر) كما أشرتُ إلى ذلك في بعض كتبي.. وقرأت في كتاب (متاهات القول) للنّاقد المغربي كيليطو: (كان ابن الجوزي يكره أبا العلاء المعري). قلت: وعلى أبي العلاء فقِس.. ومن يطالع المنتظم يرى ذلك جليّا. نعوذ بالله من قلّة الإنصاف.

فأبو الفرَج له كغيره من أدباء هذه الأمّة حسنات وسيئات، ومن الظّلم أن نجرّده من كلّ فضائله ومزاياه بسبب (الأيديولوجيا)، فهذه منهجية ضيّقة لا ينبغي للباحث أن يتورّط في مسالكها الوعرة حين يبحث في شخصية من الشّخصيات. وإلا سيكون كالببغاء يردّد كلام غيره دون تمحيص.

ليسَ يعنينا كتاب الأغاني هنا إلاّ من حيثُ كونه مصدرًا من مصادرنا الهامة في تراجم الشعراء، ففي هذا الكتاب ما يقرب من خمسمائة ترجمة لخمسمائة شاعر وشاعرة عاشوا في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر العباسي الأوّل.

ولنقارن بين حكم ياقوت الحَمَوي وبين قول ابن الجوزي لنعرف الفرق بين حكم الفقهاء والأدباء، يقول ياقوت في معجمه ج 4 ص 1708: ولعمري إنّ هذا الكتاب (يقصد الأغاني) لجليلُ القدْرِ شائعُ الذّكر، جمّ الفوائد، عظيم العلم، جامع بين الجدّ البحت والهزل النحت، وقد تأملت هذا الكتاب وعُنيت به وطالعته مرارًا وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات.

ويقولُ ابن خلدون في المقدّمة: وقد ألّفَ القاضي أبو الفرَج الأصبهاني، وهو ما هو، كتابه (الأغاني) جمع فيه أخبارَ العرب وأشعارَهم وأنسابَهم وأيامَهم ودُولهَم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المُغنّون للرّشيد، فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كلّ فنّ من فنون الشّعر والتّاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديبُ ويقفُ عندها، وأنّى له بها.

وفي كتاب نظرة تاريخية في حركة التـأليف عند العرب في اللغة والأدب لأمجد الطرابلسي: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني فهو في الحقيقةِ من أغنى الموسوعات الأدبية القديمة التي تعتز ّ بها المكتبة العربية، وهذا الكتاب أوسع مصدر نمْلكه في تراجم شعراء العربية حتّى نهاية القرن الثّالث الهجري.

وليسَ يعنينا كتاب الأغاني هنا إلاّ من حيثُ كونه مصدرًا من مصادرنا الهامة في تراجم الشعراء، ففي هذا الكتاب ما يقرب من خمسمائة ترجمة لخمسمائة شاعر وشاعرة عاشوا في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر العباسي الأوّل. وجُلّ هذه التراجم شديدة التّفصيل غزيرة المادة تحتوي على قسط وافر من أخبار الشعراء المُترجم لهم ومن آثارهم. بل إنّ بين هذه التراجم ما لو أفرِد عن الكتاب لجاء كتابًا مستقلا بنفسه.

إنّ أبا الفرَج عرف كيف يصهرُ في كتابه الرّحب أثمن معارف عصره الأدبية، بعد أن استقاها من عشرات الكتب. وهذا معنى ما رُويَ من أنّ الكاتب والوزير البويهي المشهور بالصاحب بن عبّاد، الذي كان مُولعًا باقتناء الكتب حتى اجتمع منها في خزانته ما لم يجتمع عند غيره، كان إذا سافرَ استصحب معه من الكتب ما يُحمل على ثلاثين جملاً، فلما وصل إليه كتاب الأغاني استغنى به عنها.

قال عنه الذّهبيُّ في السيّر: كان بحرًا في نقل الآداب، وكان بصيرًا بالأنسابِ وأيّام العرب، جيّدَ الشِّعر. والعجب أنّه أمويّ شِيعي، وكانَ وَسِخًا زريّا يتّقون هِجائه. وقال ابنُ كثير في تاريخه: كان شاعرًا أديبًا كاتبًا، عالمًا بالأخبار وأيام النّاس، إلاّ أنّه كان يتشيّع. وفي تاريخ بغداد للخطيب: سمعت أبا الحسن النّوبختي يقول: كان أبو الفرج الأصبهاني أكذبَ النّاس كان يدخلُ سوق الورّاقين وهي عامرة، والدّكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصّحف ويحملها إلى بيته ثمّ تكون رواياتُه كلّها منها. وكان أبو الحسن البَتي يقول: لم يكن أحدٌ أوثقَ من أبي الفرَج الأصبهاني. قلتُ: فانظر يرعاك كيف يتناقض الحكم فيه من شخص لآخر، وقديما كنا نقرأ: إذا اختلفت الآراء في رجل واحد فاعلم أنّه عظيم.

حين نقرأ الأغاني نقرأه لتقوية الملكة اللّغوية، والتّعرف على حياة الشعراء وغير ذلك من الأمور التي لا ينبغي أن يجهلها طالب علم مبتدئ فضلا عن غيره. لم نفكّر قطّ أن نأخذ العقيدة والأحكام الشرعية عنه ولا عن غيره من الكتب الأدبية.

أمّا ما نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء: من أنّه كان وسخًا في نفسه وثوبه وفعله حتى إنّه لم يكن ينزع دراعةً يقطعها إلا بعد بلائها وتقطيعها، ولا يعرفُ لشيء من ثيابه غسلا ولا طلب منه في مدّة بقائه عوضًا..فذاك شيء لا يهمّنا ولسنا في محلّ للمأكولات حتى تعافه أنفسنا، وعلى قول شيخ المعرّة:
خذي رأيي وحسبك ذاك منّي *** على ما فيّ من عِوَجٍ وأمتِ

والمفيد عندنا أن نعرف أنّ هذا الكتابَ كتابُ أدب وشعر وتراجم، لكن أخباره لا ينبغي أن نأخذها كما لو كنّا نأخذ أحاديث البخاري أو مسلم، بل يجب تمحيصها ومقارنتها مع غيرها من الأخبار المبثوثة في كتب التّاريخ والترّاجم الأخرى، ونحن حين نقرأ الأغاني نقرأه لتقوية الملكة اللّغوية، والتّعرف على حياة الشعراء وغير ذلك من الأمور التي لا ينبغي أن يجهلها طالب علم مبتدئ فضلا عن غيره. لم نفكّر قطّ أن نأخذ العقيدة والأحكام الشرعية عنه ولا عن غيره من الكتب الأدبية، حتى نسرف في التّحذير منه كلّ هذا الإسراف الذي نسمعه بين الفينة والأخرى من المتنطّعين.

يقول علي الطنطاوي في كتابه فصول في الثاقفة والأدب: أما كتاب الأغاني فإنّ من أراد متعة الأدب، وطلب جيد الشّعر، وأراد الإحاطة بأخبار الشّعراء والمُغنّين، للذّة الأدبية وتقوية الملكة البيانية، فلا يجد كتابًا أجمعَ لهذا كلّه منه. وما منّا إلا من كان (الأغاني) عُدّته الأولى في إقامة اللّسان وتجويد البيان. ولقد قرأته كلّه (وهو بضعة وعشرون جزءًا) ثلاث مرّات، واستفدت منه في الأدب واللغة ما لم أستفد مثلَه من غيره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.