شعار قسم مدونات

صناعة التاريخ.. من يكتب؟

blogs - كتب تاريخ قديمة
إن أعتى وأخطر حرب يمكن أن تشن على شعب أو أمة، ليست تلك التي تكون بأسلحة بيولوجية أو نووية، وإنما هي تلك الأفكار المنبعثة في سياق منظم، لها نطاق تدميري يشمل قطر الأمة كلها، معدلة بذلك تركيبة المجتمع الفكرية، وعابثة بإدراك أفراده لبعضهم البعض، مغيبة أهم العناصر الروحية لقيام أي أمة كالانتماء والولاء.
من بين أهم الميادين والنطاقات المستهدفة من طرف هذه الحروب هي التاريخ، ويتم ذلك بطريقة العبث فيه من تعديل إلى تجريح مرورا بخلق كيانات تاريخية ربما لم تكن في الأصل فاعلة وقتها، كشخصيات تاريخية، أو جرائم أو حقائق قد تغير سياق الأحداث، وأمثلة ذلك كثير، فكم من ثورات أصبحت حروب عصابات، وكم من فتوحات أصبحت غزوا وإبادات، وغيرها من التأويلات والتفسيرات.

إن العبث بتاريخ شعب ما، من أبشع طرق الهجوم عليه وغزوه التي من الممكن أن تكون، فالعبث بالتاريخ يولد مجتمعا ممسوخا غير ذي قاعدة ولا تأصيل، كما يصبح طرح الهوية والشعور بالانتماء يكتسي على قدر من الصعوبة والانتفاء، وهنا تحدث الجريمة، وتبدأ مخرجاتها تتجلى في سيكولوجية أفراد الأمة، على شكل انحلال وتحرر من قوانين معيارية لطالما كانت روح المجتمع ومصدر شعوره بالتمايز عن المجتمعات الأخرى.

الصورة النمطية المأخوذة عن هتلر كانت صورة الحلفاء لا صورة الواقع، وأن الإفراط في ذم شخصيته نابع من ازدرائه لليهود واحتلاله لأوروبا وتحطيم كبريائها ومحاولة بعث نظام دولي جديد، فكيف لهم أن ينصفوه.

إن العصرية لا تعني القطيعة مع الماضي، بل على العكس من ذلك، إذ إن عصرنة الشيء هي تطوير ما كان عليه وليس إقصاءه وإحلال البديل عنه، إذ نصبح هنا أمام طرح الاختراع، فلطالما كان الأصل هو مصدر التحديث، ونلمس هذا في مجتمعات عصرية لا تزال تحافظ على روحها الحضارية وأصالتها في تطورها وعصريتها، وتحس بذلك التزاوج بين التراث والقيم مع التطور والازدهار الخاضع لاعتبارات تكنولوجية واقتصادية.

قضية التاريخ وكتابته أصبحت ذات أهمية لا تقل عن أهمية تلك الإجراءات التي تختص بالأمن القومي، إذ هناك من فقه هذا المتغير وأخذه في الحسبان، وترجم هذا الاهتمام في التواجد الغزير لمراكز البحث والتاريخ والأنثروبولوجيا، إذ دأبت هذه المراكز على حشد مقدرات كبيرة للتعاطي مع قضية التاريخ، فقد أصبح هذا الشأن من سبل الحفاظ على المجتمع واستمراريته.

من يكتب التاريخ؟
في الغالب نجد التاريخ يخضع لكتابة وإملاءات المنتصر والقوي، فتقدم تأويلات وروايات تتماشى ومتطلبات الشعور بالفخر بالأمة، هذه المتطلبات لا تبقى معلقة في جدران المتاحف ولا على صفحات الموسوعات، بل يتم رسكلتها وإعادة توظيفها وإدماجها في طيف واسع من إدراك أفراد المجتمع تجاه أمتهم، يكسب بموجبها كاتب التاريخ راحة ثقافية تعطيه هامشا من الحرية في التعامل مع مستجدات كالهوية والثقافة وربما حتى النعرات الانفصالية.

مسلمة أن التاريخ يكتبه المنتصر أصبحت مستهلكة، فلم يعد المنتصر هو الناظم والضابط للأحداث التاريخية وحسب، بل حتى المهزوم أصبح هو الآخر يكتب التاريخ من مخياله هو، مجندا بذلك مشاعر الشعوب وإحساسها بالظلم والقهر، فلم نعد نتكلم عن مهزوم خسر معركة بل نتحدث عن قلة تعرضت للإبادة ، فاخذ كل طرف في العملية التاريخية يفسر من منظوره ومن رغباته وتطلعاته الأحداث.

وجدير بالذكر أن نأخذ في الحسبان أن الذي يكتب التاريخ هو إنسان، والتاريخ ليس كيانا قداسيا لا يعرف التحريف أو التعديل، فهو يشمل جميع الصفات الإنسانية من كره وحقد وازدراء، كما يتوفر في ثناياه إرادات ورغبات، توضح جيدا أن الذاتية سمة تطبع التأريخ للظاهرة بإرادات الكاتب، لدرجة أنه يغير بأسلوب التفسير والتنميق ما كان ويرجعه إلى ما يريده أن يكون، ولطالما كان هذا هو النمط السائد، إذ إن الصورة النمطية المأخوذة عن هتلر كانت صورة الحلفاء وبامتياز لا صورة الواقع، وأن الإفراط في ذم شخصيته نابع من ازدرائه لليهود واحتلاله لأوروبا وتحطيم كبريائها ومحاولة بعث نظام دولي جديد محركه العرق الجرماني، فكيف لهم أن ينصفوه وهم يكتبون التاريخ.

أصبح البعد الحضاري ومن صلبه البعد التاريخي موردا رئيسا للقوة الناعمة، وأصبح ينتج كميات كبيرة من حسن تقبل الآخرين للدولة والعرق، وهذا ما أدركه العالم فأصبح التاريخ يصنع لخدمة القوميات.

وكذلك صورة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة هي نظرة الأمريكيين أنفسهم، في حين لو نقرأ الرواية الكوبية للحرب الباردة مثلا لوجدنا العكس تماما رغم الاتفاق في التواريخ، وغيرها من الأمثلة التي ذمت أو بجلت من طرف التاريخ.

أما الآن وقد جد واجتهد كل فريق، وجند مقدراته التأريخية لخدمة القضية القومية، فأصبحنا في حالة من التوازي في الأحكام، إذ أصبح كل أطراف الماضي مظلومون وفي الوقت نفسه غزاة ومجرمين، الكل يبجل قوميته التي تذمها الرواية المقابلة من الأطراف الأخرى، فلم يعد الماضي سوى معرضا تجاريا كل عارض فيه يبين لك كل مزايا سلعته ويشهر لها، وأنت حر من أي رواية تأخذ.

أصبح البعد الحضاري ومن صلبه البعد التاريخي موردا رئيسا للقوة الناعمة، وأصبح ينتج كميات كبيرة من حسن تقبل الآخرين للدولة والعرق، وهذا ما أدركه العالم فأصبح التاريخ يصنع لخدمة القوميات، غير آبه بحقيقة ما جرى، إذن فهل علينا أن نلتزم بتاريخنا، أم نكتبه بالتصرف؟ لعل ذلك يكون نية جادة في التغيير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.