شعار قسم مدونات

حلم الوحدة بين تألم الأمة وتيه النخبة

blogs- مطار

في زمن تعاني فيه الأمة من التشرذم والفرقة والتناحر، وفي زمن اختلفت فيه الأمم وتفرقت إلا علينا، إذ اجتمعت على نهبنا واتفقت على إفراغنا من قيمنا وتراثنا وثرواتنا، مازال مشروع الوحدة ولم الشمل مجرد شعار أو حلم تتمناه وتشتاق إليه الجماهير الصادقة، فالتوحد والاجتماع على الحق كالماء، بوجوده الحياة وبعدمه الفناء، فلو أبحرنا في محيط تاريخنا الزاخر بالقصص والعبر وتدبرنا في محطاته المصيرية وعصوره الذهبية لوجدنا أن الوحدة هي مفتاح كل نصر، وعنوان كل حضارة، وحصن كل مملكة والرادع لكل عدو، وأن الفرقة هي بداية كل سقوط وعلامة كل تخلف وطريق لتسلط الأعداء وأرض مؤهلة لنزول كل بلاء وظهور كل وباء.

للوحدة خطوات وسنن أهما حسن الظن بالمخالفين والانفتاح عليهم والتنازل المحمود الذي لا يؤدي الى التحريف والتفريط، والاجتماع على كلمة سواء بين مكونات الأمة ألا وهي هويتها المتجذرة عروقها في أعماق القلوب والمنفتحة أغصانها على شتى الحضارات والشعوب فبروحها تحضر الغرب واستقوى ورمى إلينا قمامته فانتكسنا وتخلفنا، وللانفتاح ضريبة وفيه مخاطر لا يقدر عليها إلا الشجعان الذين لهم علم شاسع وبصيرة نافذة وصدر رحب وقلب من حديد، وقد انقسمت فيه النخبة إلى فريقين، فريق انفتح ففرط في قيمه وانزلق في وحل العمالة والوصاية، وفريق تزمت وتجمد وتقوقع على نفسه بتعلة الخوف من ضريبة الوحدة ومخاطر الاجتماع مع كيانات أخرى.

هناك هزيمة مأساوية في عمق النخبة السياسية وفي قلب الفكر العربي مما يجعل من الغرب المرجع الوحيد والأوحد لهذه النخب والأنظمة المتأمركة مما يزيد من استسلامهم وإذعانهم للأمر الواقع الذي يكرس فيهم الجمود والتبعية.

تفنن الفريق الأول في خداع الجماهير بالشعارات موهما إياهم بأن الوحدة مبتغاهم وأن التنازل على القيم الجامعة مجرد مناورة لخداع العدو الخارجي كي لا يجفف منابع الدعم والتمويل وأن تنازلاتهم شفوية لا تؤثر على إيمانهم القوي بقضاياهم المصيرية وهدفهم الأسمى ألا وهو توحيد الصفوف وخوض معركة الأمة في النهضة والتحرر والنمو، لكن سرعان ما تحول هذا الفريق إلى وسيلة من وسائل النظام الدولي في السيطرة على الشعوب واختراقها في قيمها، وأصبحت مهمته إقناع الجماهير بأن حقها الأساسي هو الاستهلاك وأن إشباع اللذة هو أعلى مستوى لتحقيق الحرية الفردية.

وفي هذا الطرح الكموني الساذج تكريس لاستعمار عقول القواعد الشعبية وتهيئتها لمزيد من النهب والانحطاط الفكري والسياسي والاقتصادي بدل من تطهير هذه العقول ونفضها من غبار التبعية الإدراكية كي ترتقي بحلول نابعة من منظومتها القيمية تتخلص بفضلها من نكبات الماضي ومن نكسات الحاضر، فقد أكد هذا الفريق أن هناك هزيمة مأساوية في عمق النخبة السياسية وفي قلب الفكر العربي مما يجعل من الغرب المرجع الوحيد والأوحد لهذه النخب والأنظمة المتأمركة مما يزيد من استسلامهم وإذعانهم للأمر الواقع الذي يكرس فيهم الجمود والتبعية ويحثهم على نهب الشعوب وحوسلتها وتدريبها وتوظيفها لخدمة عدوها بالوكالة دون وعي أو إدراك.

ولنا في تيار قومي رفع شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" مثالا في الانحراف والانفصام، فحين قرر هذا التيار الانفتاح والتحالف، سلم نفسه لعدو أزلي للأمة، فقرر أن يكون طائفيا وساهم في إضرام نار الفتن بدل إخمادها وتمادى في نشر اورام الفرقة بدل استئصالها وجلب الغزاة لأرضه، خير السلطة ومصالح الأعداء على إرادة شعبه وكرس كل ما يملك ولا يملك لأجل الكرسي ومازال يتغنى بنفس الشعار ولازال الكثير يصفق ويصدق.

لم تكن مصيبة الفريق الثاني كمصيبة الأول، لأنه خير التقوقع على نفسه ورفض الانفتاح حتى على من يشاركه فكره ورؤيته أو يقرب من ذلك، وفي انغلاق هؤلاء ونبذهم للآخرين أسباب وتعلات أهمها:
– اعتقادهم أنهم هم وحدهم على الطريق السوي والدرب الصحيح، فسبيلهم هو سبيل النجاة، وأن الحال لن يستقيم إلا بآتباعهم والسير على خطاهم وأن الأمة لن تصلح إلا إذا ركبوا سفينتهم التي ستنجيهم من الطوفان وترسي بهم إلى بر الأمان.

ضاعت أحلام الأمة وضاعت أوطانها، نال منها عدوها وتمكنت منها الأمم الأخرى وهي كالقطيع بين مطرقة الراعي وسندان الذئاب، إذ ابتلاها الله بعدو لا يرحم وقيادة لا تصلح، نخبة تظن أن الله لم يهدي سواها وأخرى تأبى الهداية والاستقامة.

– الخوف، فالخوف المقذوف في قلوبهم يجعلهم ينغلقون ويصدون كل محاولات التوحد ولم الشمل، ويبررون خوفهم ورفضهم لمحاولات تقريب وجهات النظر بانحراف الآخرين، إذ يهتمون بعيوبهم فيهولوها ويغضون النظر عن محاسنهم فيغيبوها أو يقزموها.
– سوء الظن، إذ يعتبرون أن اجتهادات الآخرين ليست بغية إصابة الحق بل ابتغاء أمر مكتوم في السرائر التي لا يعلمها إلا الله، إذ يرون في هذه الاجتهادات إما خدمة للعدو أو سعيا نحو مصالح شخصية ضيقة.
– تركيزهم على تجارب الوحدة الفاشلة في الماضي وتبعاتها الخطيرة ويتعامون عن التجارب الناجحة وثمارها الطيبة.

ونرى في هذه الأسباب أو بالأحرى "تعلات" استكبارا مذموما، وخللا في النوايا وضعفا في البصيرة ووقوعا في المحظور الذي طال ما عايروا به الفريق الأول، فليس الإفراط في الانفتاح وحده الذي ينتج عنه الوقوع في شباك العدو، فالتفريط فيه أيضا والانغلاق وتعطيل سير محاولات لم الشمل ومساعي الحد من توسع دائرة الفرقة أخطر مما وقعت فيه النخب الأخرى، فخدمة العدو الخارجي ليست فقط في الانضمام إلى معسكراته ومدارسه الفكرية، فأعظم خدمة للعدو تكمن في تخريب سلاح الأمة المعنوي والأقوى من سائر أسلحة الغرب المادية والنفسية مجتمعة ألا وهو "الوحدة على أساسيات الهوية الجامعة".

ختاما، ضاعت أحلام الأمة وضاعت أوطانها، نال منها عدوها وتمكنت منها الأمم الأخرى وهي كالقطيع بين مطرقة الراعي وسندان الذئاب، إذ ابتلاها الله بعدو لا يرحم وقيادة لا تصلح، نخبة تظن أن الله لم يهدي سواها وأخرى تأبى الهداية والاستقامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.