شعار قسم مدونات

العلمانيّة الغربية.. إفلاس النّموذج والنّخبة (المثلية الجنسية مثلا)

مدونات - فرنسا

هل أتاك حديث هاشم صالح وهو ينشر في صحيفة الشرق الأوسط (العدد 13170) بتاريخ 19-12-2014 في الصفحة 14، قائلا:
"أنا شخصيا أعتبر مشروع الزواج للجميع (قانون زواج المثليين) الذي شغل فرنسا طيلة عام كامل أكبر مؤشّر على بداية الانتحار الفرنسي..". لقد كان مقالا في منتهى الأهمّية من رجل عُرف بأنه أحد أعلام الدّعاية للنّموذج الحداثي الغربيّ على مدى عقود.. يكفي أنّه أحد أكبر مترجمي أعمال محمّد أركون من الفرنسية إلى العربية.. ولقد كتبت يوم اطّلاعي على المقال بعض الكلمات، وهممت بنشرها في حينها لولا حوادث التفجيرات الفرنسية التي جعلتني أحجم عما عزمت عليه احتراما للنّزيف الذي حلّ بالأبرياء من ناحية، وحتّى لا تتداخل المواقف وهي مختلفة..

تأتي أهمية ما قاله هاشم صالح، وصيحة النذير التي أطلقها، من حيث أنّه تقييم غير مباشر لتجربة حضارة غربية، واستشراف مقصود أو غير مقصود لمآل تجربة ظنّها كثيرون وظنّت نفسها أنها التّجربة الخالدة.. وأنّها قدر الإنسانية الذي لا قدر بعده.. "أنا شخصيا أعتبر مشروع الزواج للجميع الذي شغل فرنسا طيلة عام كامل أكبر مؤشّر على بداية الانتحار الفرنسي".. تلك كلماته وهو يوصّف الحالة الفرنسية.. بل النموذج الغربي بأسره.. ذلك المشروع الذي يعمل بـ "إخلاص" على تفتيت بقايا إنسانية الإنسان..

أليس من قصر النّظر أن يهلّل الإنسان للمقولات وهو غافل عن لوازمها الفكرية، وينتصر للأسباب ثم يستغرب بعد ذلك النتائج.. لقد أدرك الواعون من ذلك الزمان أنّ النّموذج الغربي في التفكير لن يُنتج إلا الشذوذ..

يتحدث هاشم صالح في هذا المقال عن إفلاس الحضارة الغربية.. فيعلن ضمنيا عن إفلاس النخب العربية التي ربطت "قلوبها" و"ووعيها" و"وجدانها" و"مفاهيمها" بسارية من سواري الغرب.. غريب جدّا أن يتنبّأ حداثيّ مغرم بفرنسا ببدايات الانتحار الفرنسي.. وأغرب منه أن يدافع عن الحداثة الماديّة الغربية ثم لا يتوقّع أن تؤول إلى تبرير الشذوذ باسم الحرية الشخصية.. لا أدري هل أحمل مقال الرجل على أنّها صحوة ضمير.. أو ربّما استفاقة فكر أضاءت له الطّريقَ لحظةً فمشى فيه (دون أن أدخل في النوايا وأفتش في النفوس، ودون أن أطلق أحكاما تتعلّق بالولاء أو الخيانة، فمنتهى ما أحرص عليه هو تحليل المواقف ونقدها، أما الأشخاص فهم محل الاحترام من نفسي ومن خطابي)..

أو أحملها على أنّها سذاجة منهجية يكاد يتّسم بها كثير من المعدودين نخبا في مجتمعاتنا والمطبّلين للحداثة الغربية، سذاجة ترجموا عنها حين لم يقْدروا على استشراف النتائج الحتمية للمقولات المادية التي طالما تغنى بها المؤلف وغيره من الذين لم يألوا جهدا في تصديع القناعات داخل مجتمعاتنا.. والقطع مع كلّ المسلّمات.. ونبذ المطلقات..

أشفق عليه وهو يقول: "لا أفهم كيف يمكن لزواج الرجل بالرجل أن يشكّل قمة الحضارة والحداثة والتقدّم، هذا شيء يتجاوز عقلي وإمكانياتي، لا يستطيع كل علماء فرنسا ولا كل فلاسفة الغرب أن يقنعوني به".. أشفق عليه لأني أكاد أسمع كثيرين من حزبه الفكريّ وهم يجيبونه: "يا هذا.. ومن أنت حتّى تكون مرجعا للحقيقة.. إنّك تخرف على طريقة الإطلاقيّين والتسليميين.. رغم طول ما ادّعيت من العداوة مع التسليمية والإطلاقية.. وإنك من دعاة التضييق على الحريات الشخصية باسم "القيمة" الإنسانية، والتضييق على قانون التطوّر باسم "الفطرة" الإنسانية.. رغم ادّعائك أنّك من أنصار الحرية والتقدّمية.. إنّك فعلا رجعي بموقفك هذا.. رغم وقوفك دهرا تنافح عن التقدمية والحداثة الغربية..".

لقد عبّر مقال هاشم صالح (أحد أهم مريدي محمد أركون)، عن أزمتين في آن:
– أزمة الحضارة الغربية..
– وأزمة النّخب العربية..

فأمّا أزمة الحضارة الغربية، فإنّ منطوق المقال كلّه يؤكّده، وبشهاداتٍ مؤيّدةٍ لا تأتي هذه المرّة من معمّم زيتوني أو أزهري، ولا من سلفيّ سعودي أو خليجي، ولا من متنطّع محسوب على السّطحيّة المنهجيّة والتّطرف الدّيني.. بل من أعلام فكر وصحافة غربيّين جدد وقدامى، يستشرفون للنموذج الغربي أفولا ضروريًّا، وانهيارا أشّرت عليه انتكاسات خطيرة ومتكرّرة، أمثال:
– ريتشارد كوك وكريس سميث في كتابهما "انتحار الغرب"، نُشر سنة 2006، وقالت عنه هيلين كيندي كيوسي "هذا هو الكتاب الأهمّ لأحوالنا الحاضرة"..
– الصحفي الفرنسي "إريك زمور" في كتابه "الانتحار الفرنسي" المنشور سنة 2014..
– جيمس بيرنهام المنظّر السياسي في كتابه "انتحار الغرب" مع عنوان فرعيّ هو: معنى الليبرالية وقدرها.. وقد نشر عام 1964.
– أوزولد إشبنغلر في كتابه "انهيار الغرب"، وقد صدر المجلّد الأول منه في العام 1918..

وأمّا أزمة النّخب العربيّة، فإنّ مفهوم المقال ودلالاته يكشفها ويحيل عليها.. فهو يكشف ضيق الأفق والتناقضات المنهجيّة.. أليس من قصر النّظر أن يهلّل الإنسان للمقولات وهو غافل عن لوازمها الفكرية، وينتصر للأسباب ثم يستغرب بعد ذلك النتائج.. لقد أدرك الواعون من ذلك الزمان أنّ النّموذج الغربي في التفكير لن يُنتج إلا الشذوذ.. وأنّ تحييد القيم والدّين عن الحياة والشأن العامّ سيفتح الباب أمام كلّ الجنايات الأخلاقية دون أي رادع..

التناقضات المنهجيّة، فيمارسها كلّ علماني (هاشم صالح أو غيره)، حين ينقد أيّ موقف شاذّ باعتباره مناقضا لإنسانية الإنسان.. لأنّه لا وجود لمعنى "إنسانية الإنسان" في مقارباتهم..

فلماذا نستغرب الشذوذ حين وقوعه؟
إنّ منطق التّفكير النّاسف لكلّ المطلقات والثوابت لن يستثني ثابتا سلّم به هاشم صالح لمجرّد أن هذا الأخير سلّم به.. إنّ نسف الثوابت وحش سيعمل على ابتلاع كلّ القيم وعلى وأد إنسانية الإنسان.. وزواج المثليين بعض ثمار مقولات الحداثة المادية الغربية، وتأجير البطون بعضها الآخر، وزواج المحارم بعضها الثالث.. ولن يتأخّر اليومُ الذي يرى كلَّ فضيلة في حياة الإنسان مجرّد مطلقات وتحكّمات آن وقت تهشيمها ودهسها حتّى يتحرّر الإنسان من كلّ القيود ولو كانت قيود إنسانيته..

وأمّا التناقضات المنهجيّة، فيمارسها كلّ علماني (هاشم صالح أو غيره)، حين ينقد أيّ موقف شاذّ باعتباره مناقضا لإنسانية الإنسان.. لأنّه لا وجود لمعنى "إنسانية الإنسان" في مقارباتهم.. وما يؤمن به المجتمع الدّولي اليوم من ملامح هذه الإنسانية، قد ينقلب ضربا من التخلّف والرّجعية يومَ تتغيّر المواقف والتّقديرات، ويستعدّ الرأي العامّ لتقبّل الاعتداء مثلا باعتباره "حقّ القوي"، والسرقة باعتبارها "ذكاء وتحقيقا طريفا للذات"..

تلك "العلمنة" داخل نموذج حداثيّ قتل الإنسان ومشى في جنازته من ذلك الزّمان، واتّخذ الرّبح والسوق لنفسه دينا.. إنّ كلّ علمانيّ، في ظلّ تسليمه بالحرية الشخصية المنطلقة من كلّ القيود إلا الاعتداء على الغير كما تقوله المقولات الليبرالية، وفي ظلّ تسليمه كعلماني بتحييد القيم الدينية عن السياسة، مُطالبٌ بأن يتخلّى عن قناعاته الشخصية المتأتّية من زمن "المثاليّات" و"المطلقات" والمترسّبة من زمن "الكمالات" وأساطير الأديان، وأن يستسلم قانعا لما يتوافق عليه الرأي العامّ الإنساني الذي يُصنّع في الشركات العابرة للقارات عند الغربيّين هنالك.. وهو يرتكب خيانةً منهجية خطيرة إذا احتجّ على خيار من تلك الخيارات الغريبة والشاذّة لأنّه بصنيعه ذلك، يُفرغ العلمانية من معناها، ويجعل على الإرادة الشخصية والإرادة التعاقدية الجماعية قيودا لا يبررها إلا الإيمان بالمطلقات والثوابت التي طالما حاربها هو وأستاذه وكلّ الذين لفّوا لفّهما..

إنّه في الأخير مقال ينعى نموذجًا يتهاوى.. ويتهاوى معه كلّ كهنوته من النّخب العربية المسبّحة بحمده ليلَ نهار..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.