شعار قسم مدونات

لاجئون لا أكثر!

blogs - لاجئون
هذا الكمْ الهائِل مِن الموت والجنون يُتعبني.. فأمضي مُثقلةٌ بتَعب لا مناص ولا مهرب مِنه.. بقدمان سليمتان وقلبٌ مُمزَق بعينان جميلتان ووجهٌ شاحبْ. اليوم اِجتاحَتني رَغبةٌ عَارمة بالبُكاء، رَغبة واسعة بعدد الذكريات التي أتجنب بِكُل قواي ألَّا أثيرها وبِعدد صور الموت الشنيعة التي أمرُّ فوقها مُرورَ الكِرام، أو حُريَّ بي القول مُرور الهَارِبين مِنْ تفاصيلها السوداء.

حينما كُنَّا نتحادث سوياً أنا وزُملائي شَعرتُ فجأةً بأنني لَمْ أعُد أمتلك القِدرَة على إضافة أي كلمة لأي حديث تم توجيهه إلي و أنَّ كُل ما أردته كان مغادرة هذا المكان! عُدتُ مُسرِعة إلى منزلي لأدخُل غُرفتي التي أضعتُ بِها ما أضعتُ مِنْ الوقت في تصَّفُح هذه المواقع الوهمية الغبية الذي جلَّ ما جنيته مِنها كان كمثقال ذرةٍ من صحراء السوء.

وحينَ وجدتَها تضيقُ أكثر.. كُنتُ أقوم بفتح المُحادثات لأُكلِم إحدى صديقاتي المُقربات وعندما كتبت أولَّ حرفين! ناداني الصوت البعيد: لا تُحادثي أحداً ستُتعِبينَه ، لديهُم مِن الهُموم ما يكفي.. لديهُم دمارٌ وموتٌ وبحث عن متطلباتِ حياة وأشياءٌ أثقلُ مِن أنْ تُقارَن بهمكِ النَفسي، لا تقولي شيئاً فيسمعُكِ الحزينون فلا ينقُصُهم المزيدَ مِنَ الحُزن!

عجوز تقف على الشرفة مرتدية لثوب صلاةً ومُستغِلةً سُقوط المطر بدعاء الله أن يهدي ولداً عاقاً لها،  صوت الأذان، صوت القرآن المُنبعث من أحد بيوت العزاء(حينما كُنّا نُقيم لِكُل ميتٍ بيتَ عزاء).

وتبقى ضجَّةُ الأصوات في رأسي تدور إلى أن تهدأ قليلاً وأنام بُضع سويعات حتى يوقظني صَوت المُنبه ثانيةٌ.. انهضي!.. عليكي أن تبدأي بإعادة الدوامة وتِكرار ما قد فعلتِه بالأمس، ارتدي ملابسي وأخرجُ مُسرعة لئلا يفوتني القطار كعادته! أو كعادتي في تفويته!

لَكِنّه بالرُغم من ذلك يمنحني أحياناً بعض الفرص الصغيرة، فحينما أصِل وأنا فاقِدة للأمل أراهُ قد تأخر في الانطلاق وأُدرِك مرةً أُخرى أنه أعطاني فرصةً أُخرى.فرصه قليلة نعم ، لكنها موجودة .. أصعدُ في القطار لأجلُس وأبدأ بقراءة فُتاتٌ لرواياتٍ قد غفا الليل وأنا اقرأها.. أجلسُ في القطار منتظرة أن تمضي الساعة الطويلة حتى أصل إلى الجامعة.. أجلسُ وحيدةً أكثر من قدرة أي شخص بالعالم على تَخيُّلِ مدى فداحة لحظتي.. وأمضي بلا رِفاق.. ف هنا "لَـمْ يَعُـدْ عنـدي رَفيـقٌ.. رَغْـمَ أنَّ البلـدَةَ اكتَظّتْ بآلافِ الرّفـاقِ!"

يسيرُ القطار وأنا أنظُر في العيون الباردة، الزرقاء والغريبة! أفعل مايفعلون وأجلسُ مُحاوِلَة بأقصى ما يُمكِن تجاهُل النظرات الغريبة إلي. يتخلل تٍلكَ النظرات أحياناً ابتسامات بارِدة أرُّدُ عَليها بابتسامةٍ أبرَدْ. في زاوية القطار يجلس شخص ذو ملامح عربية، على وجهه علامة رهيبة من علامات ذلك الغياب، ذلك الاغتراب عن كل شيء، مما يجعل الكلام معه مرعبًا.

يحينُ موعد نزولي من القطار.. أنزلُ في المحطة المطلوبة وأتابع المسير على أرض لا تنتمي لي، محاوِلةً بِكُل ما فيَّ البحث عن انتماء، أنظُر للمحل العربي المتواجد في الرُكن، أُطيل النظر إليه كثيراً عَّلي أجدُ فيه انتماء، ولكِن عبثاً أُحاوِلُ دون جداء فكُل شيئ في قلبي باردٌ جامِدٌ لا يستطيع تحريكه هذا الهدوء المخيف الذي يُعيد إليَّ صدى كُل الأصوات الجميلة هناك كُلَما حاولتُ أن أُغمض عيناي..

تحلم أن لا تكون لاجئا.. فقط ليوم واحد! لا أعرف على أي أساس تم تصنيفنا على أننا حل للمشكلة.. نحن لسنا حلاً للمُشكِلة، نحنُ اللاجئون الجزء الأسوأ من المشكلة.

صوت بائع الغاز وهو يقوم بالطرق على جرة الغاز، صوت المسلسل الذي يقوم كل سُكَّان الحارة بمتابعته بنفس الوقت، صوت اثنتان من الجارات وهُنَّ يقمنَ بدعوة بعض لشرب القهوة سوياً، صوت عودة الأطفال من المدارس، عجوز تقف على الشرفة مرتدية لثوب صلاةً ومُستغِلةً سُقوط المطر بدعاء الله أن يهدي ولداً عاقاً لها، بائعُ الخُضار وهو يلقي تحية الصباح على السمَّان، صوت الأذان، صوت القرآن المُنبعث من أحد بيوت العزاء(حينما كُنّا نُقيم لِكُل ميتٍ بيتَ عزاء).

صوت فيروز يصدر من كل مكان في ساعات الصباح الأولى… مع كُل هذه الأصوات لا أملكُ سِوى شُعور واحد بأنَّ هذه الذاكرة مُمتلئة بما يكفيها وأني غير مُستعدة للتخلص من ذكرى مهما كانت صغيرة هُناك لِوَضع أخرى جديدة مِن هُنا، وإذا ما أُجبِرتَ على محو ذكرى هناك لن تجد شيئا جديراً بأن تضعهُ مكانها.

لن تجد سوى الصمت والخواء القاتل، وسط كُل هذِه الأفكار أمضي وأنا أرتشفُ الكون بنظرات لا أعلمُ لها شعور ولا عنوان، حتى تلك اللحظة التي تأتي بعد هذه اللحظة لا أحملُ لها أية رؤيا أو خيال.. وأُتابع المضي في غربتي التي لا تمضي، أمشي لا في طريقٍ مستقيمٍ، ولا منحنٍ، إنمّا إلى اللامكان، إلى اللاوجهة، كقطارٍ خارجٍ عن سكّته.. أُتابعُ المسير في منفى لا يُسمح لي بأن أكون أنا به ولا يُسمح لي أن أكون هُمْ!

في رحلتي هنا أدنى درجات السعادة أو الرفاهية التي تعترض طريقي بالصدفة قد تُدمي قلبي وتُشعرني بالذنب.. وقد يتطور الأمر إلى أن أُحاسب نفسي على الأمان الذي أعيشه دون أن أستطيع التصالح مع نفسي والقول لها بأن هذا حقها، بل وأدنى حقوقها!

لن تجد سوى الصمت والخواء القاتل، وسط كُل هذِه الأفكار أمضي وأنا أرتشفُ الكون بنظرات لا أعلمُ لها شعور ولا عنوان، حتى تلك اللحظة التي تأتي بعد هذه اللحظة لا أحملُ لها أية رؤيا أو خيال.

فعندما تصبح بعيداً عن مرمى الموت وعن كل محاولاتك الجائزة بمساعدة أي شخص يشبهك ويحمل داخله وطناً وحلماً كبيراً وأملاً، تكون عاجزاً متعباً وهذا التعب قد يودي بك إلى الجنون أحياناً فبقائنا هناك موت وخروجنا من هناك موتان.

شيئاً فشيئاً ستعتاد البشاعة حتى يصير بإمكان كُل ما هو جميل أن يُخِلَّ بتوازنك.. ستبدأ بكره كل شيئ حينما ترى كل من تعرفهم قد أصبحوا وحوشا وستجد نفسك تُقاتل بكامل قواك للتمسك بما تبقى من إنسانيتك.. تعضّ عليها لئلا تفلت منك وتترجى كل ذرة منك أن تبقى.. أن لا تتلاشى!

وحينما تصل إلى اليأس من بقاء إنسانيتك وسلامك الداخلي تبدأ بعيش أكبر مخاوفك بأن تتحول إلى النماذج التي كُنت تحتقرها بالأمس. شيئ يشبه الحلم أو حُريَّ بِنا أن نقول الكابوس.. شيئ يقتل ما بداخلك وأنتَ غير قادر على التحكم به.. وفي النهاية ستحلم بأنَّك لو تستطيع قضاء يوم واحد دون أن تكون لاجئ.. فقط يوم واحد! لا أعرف على أي أساس تم تصنيفنا على أننا حل للمشكلة.. نحن لسنا حلاً للمُشكِلة، نحنُ الجزء الأسوأ من المشكلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.