شعار قسم مدونات

في عُمر ماكرون.. مازلتُ أفكّر ماذا سأصبح

Outgoing French President Francois Hollande (L) and President-elect Emmanuel Macron attend a ceremony to mark the end of World War II at the Tomb of the Unknown Soldier at the Arc de Triomphe in Paris, France, May 8, 2017. REUTERS/Stephane De Sakutin/Pool

"إنه لأمر فظيع!" قلتُ مخاطباً نفسي، وعينايَ مثبّتتان على الشاشة التي ظهرت عليها، للتوّ، نتيجة الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية: إيمانويل ماكرون 65،1 بالمئة/ مارين لوبان 34،9 بالمئة. ولكيلا يذهب تفكيرُكم بعيداً؛ أطمئنكم من الآن: لستُ أحد مناصري لوبان، أو معتنقي أفكار "الجبهة الوطنية" التي نحرص، نحن العرب، على إرفاقها بعبارة "المتطرّفة"، مع تشديدٍ في النطق، كتعبير على الإدانة والرفض، رغم أنّنا نتبنّى ونعمل بأفكار وقوانين أسوأ في كثيرٍ من البلدان العربية التي قد تعيش وتعمل وتهرم وتموت فيها، من دون أن تمنحك جنسيّتها أو تعتبرك واحداَ من أبنائها. ستبقى مجرّد مقيم عابر مهما بذلت ومهما هرمت، ونحن لا نرى في ذلك أيّ شكلٍ من أشكال التطرّف.
 

كما أنني لم أكن أتوقّع وصول مرشّحة أقصى اليمين إلى "قصر الإليزيه". أنا، يا سادتي، مثلكم جميعاً، ومثل جميع استطلاعات الرأي، كنتُ أتوقّع فوز المرشّح الوسطي الذي لمّا يبلغ بعدُ عامَه الأربعين. هكذا إذن؛ فثامن رؤساء الجمهورية الخامسة، هذا الرجل الذي قلب المشهد السياسي في بلاده رأساً على عقب، وهزم اليمين واليسار التقليديَّين معاً، بعد أن كان اسمُه لا يُذكَر قبل ثلاث سنواتٍ فقط، هو من مواليد العام 1977، أي أنه أصغر رئيسٍ منتخَب في التاريخ الفرنسي، وهنا تكمن المشكلة: مشكلتي أنا، ومشكلتنا نحن.
 

لكم سيُسرَق من سنوات عمرك، وكم ستضيّع بيديك؟ أنت الذي كنتَ تخشى أن تبلغ الواحد والعشرين من دون أن تحقّق شيئاً، ها أنت تركض إلى الأربعين ركضاً، إلى عمر ماكرون، من دون أن تحسم أمراً أو تحقّق شيئاً.

إنه لأمر فظيع، على المستوى الشخصي، أن أرى شخصاً لا يكبرني سوى بخمس سنواتٍ، وهو يستعدّ ليُدلي بالقَسَم الدستوري رئيساً لبلاده. أنا في الرابعة والثلاثين من العمر، وهآنذا أركض إلى الأربعين ركضاً، إلى عمر ماكرون، من دون أن أحسم أمراً أو أحقّق شيئاً. ربّما أصلح كمقابل موضوعي لرئيس فرنسا الجديد، بوصفي نموذجاً للفشل والاخفاق في جميع الخطط المستقبلية. تلك الخطط التي نرسمها باكراً، ثمّ تسقط في الماء.

دخلتُ إلى المدرسة في عامي الخامس، وكم شعرتُ بالفخر حين اكتشفتُ أنني أسبق أقراني بعامٍ واحد. الحقيقة أن ذلك لم يكن سهلاً؛ ففي أوّل أيامي في المدرسة تلقّيتُ صفعةً من أبي الذي ظنّ أنّني هربتُ من الفصل، بينما الحقيقة أن "العم شنَبو"، هكذا كنّا نُلقّب مدير المدرسة، طرد التلميذ الصغير الذي وزّع أدواته على الطاولة بسعادةٍ غامرة، طرده بعبارات لطيفة: "عُد العام المقبل يا بُنيّ". لا أذكر، بالضبط، ما حدث بعدها. أعرف فقط أنني عدتُ (عنوةً على الأرجح)، ولم أنتظر العام المقبل.

أذكر أنني عندما دخلتُ الجامعة، كان أحد معارفي، ممّن يبلغون مثلي 17 عاماً، لا يزال يدرس في الإكمالية. ومع ذلك، ظلّ هاجس العمر يؤرّقني طيلة تلك الفترة: "سأبلغ 21 عاماً عند إتمام الجامعة، وحينها سأكون قد كبرتُ كثيراً". هكذا كنتُ أقول. رغبتُ بشدّة في أن تتقلّص تلك المرحلة إلى ثلاث سنواتٍ مثلاً بدلاً من أربع، وفكّرت في ترك الدراسة. فكرة أن "أكبر" هناك كانت تقضّ مضجعي.

في سنتي الجامعية الثالثة، فقدتُ سَنَتي الذهبية، تلك السنة الثمينة التي كانت تُشعرني بالتفوّق والتقدّم (للأمانة، لم أكن طالباً متفوّقاً). تعثّرت. بدل أن تتقلّص، تمدّدت السنوات الأربع إلى خمسٍ، وشعرتُ أن شيئاً ثميناً سُرق من عمري.

وأنا أدلف من الصف، خاطبني أستاذ مقياس السرديات: "يا سي حاجي، تغيّبتَ يوم الامتحان، وتحتاج مبرّراً".
– مثل ماذا؟
– شهادة طبيّة.. أيّ شيء.
– لكنّني لم أكن مريضاً.

ابتسَم، وضرب لي موعداً في الامتحان الاستدراكي الذي خرجتُ منه بعلامة إقصائية. ما كان ينقصني هو 0،25 لا غير، وقد رأيتُ في ذلك تشديداً للعقاب جزاءً لصراحتي. والحقّ، كرهتُه، حقدتُ عليه كثيراً وطويلاً. كرهتُ كتاباته أيضاً، فهو روائي رديء. ذلك ما كنتُ أقوله. لاحقاً، حين تجاوزتُ حقدي وشعوري بمرارة الهزيمة (ربّما بسبب هزائم لاحقة)، عدتُ لأقرأ سفيان زدادقة بعين أخرى، فوجدتُه روائياً جميلاً ومختلفاً.

لمن الفظاعة أن أنظر إلى القارّة العجوز فأرى قادةً شباباً في عمر ماكرون، ثمّ أعيد الكرّة إلى قارّتي، إلى بلدي، الذي قالوا لنا إن الشباب يمثّلون 75 بالمئة من سكّانه، فأراه تحت وطأة حكّام عجزة ومرضى وخرِفين.

يا للمفارقة! أنتَ الذي حقدتَ بسبب سنة، لكم سيُسرَق من سنوات عمرك، وكم ستضيّع بيديك؟ أنت الذي كنتَ تخشى أن تبلغ الواحد والعشرين من دون أن تحقّق شيئاً، ها أنت تركض إلى الأربعين ركضاً، إلى عمر ماكرون، من دون أن تحسم أمراً أو تحقّق شيئاً.

مرّةً، ضحكتُ كثيراً وأنا أقرأ هذا المنشور اللئيم على فيسبوك: "تلقاه في عمرو ثلاثين سنة ومازالو يخمّم واش راح يولّي كي يكبر" (بعضهم في الثلاثين ولا يزال يفكّر فيم سيصبحه في المستقبل)، وفكّرت في أن هذه الكوميديا السوداء تنطبق عليَّ، على نحوٍ ما. تنطبق، أيضاً، على من هم في الأربعين و"لا يزالون يفكّرون فيمَ سيصبحونه في المستقبل"، وعلى كثيرٍ من أبناء هذا الجيل، ممّن يرسمون أحلاماً تبدو مستحيلة التجسيد، بينما يُفتَرض أنها مجرّد حقوق.

على المستوى العام، إنه لمن الفظاعة أن أنظر إلى القارّة العجوز فأرى قادةً شباباً في عمر ماكرون، ثمّ أعيد الكرّة إلى قارّتي، إلى بلدي، الذي قالوا لنا إن الشباب يمثّلون 75 بالمئة من سكّانه، فأراه تحت وطأة حكّام عجزة ومرضى وخرِفين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.