شعار قسم مدونات

فقه التبرير

مدونات - التبرير

التبرير نزوع إنساني خالص! قوامه إفراغ الجهد في التماس الأسباب والأعذار لتدعيم موقف طارئ سبّب للذات (فردية كانت أم جماعية) إحراجا وَضَعَها أمام تناقض مُحرِج بين ما هو كائن وما كان ينبغي أن يكون؛ وهذا التناقض يستدعي تلقائيا توظيف ميكانيزم دفاعي لإخفائه وأحيانا لجعله أمرا طبيعيا ومستساغا، ذلكم هو الدور الذي تضطلع به أيديولوجيا التبرير.
 

ولأن الإنسان دائما وأبدا ميّال إلى نحت مسوغات ومبررات لِما يكتسبه من أفعال أو أقوال، بقطع النظر عن طبيعة تلكم المبررات، هل منطقية تتناسب مع الأفعال المبررة؟ أم هي فقط وهمية متخيلة جيء بها لغرض ما؟ فإنه يصح أي يقال: إن الإنسان "حيوان مُبرّر".

إن من عادة الإنسان ألا ينزع من تلقاء نفسه وبلا سابق إنذار إلى الشروع في تبرير الأفعال التي تتناسب مع قناعاته وأهدافه وتوجهاته، فالأفعال الجميلة والرائعة تكون مصدر فخر واعتزاز للذات، وهي بطبيعتها فوق التبرير، إنها تُبرّر نفسها بنفسها، بل وإنها لتُحَاجِجُ عن صاحبها لتكون شهادة دالة عليه، حتى إذا ما فكر الإنسان في أن يشفعها ويزكيها بالتبرير؛ فإنه لا محالة "قد" يفسدها حتى لا تعود لها أية قيمة أو جاذبية!
 

ما يقوم به المُبرّر على وجه الحقيقة إنما هو خلق وابتكار قناعات جديدة، أو بعبارة أدق؛ فهو يقوم بعملية "تحيين" لقناعاته القديمة التي لم تصمد ولم تعد لها أية فاعلية أو مقدرة تفسيرية أمام تيار الأحداث الجارف.

لكن في المقابل؛ سيجد الإنسان نفسه مضطرا إلى استدعاء مسوغات وذرائع في حالة ما إذا كان سلوكه يتنافى ويتعارض مع ما سطّر لنفسه من مبادئ وقناعات، أو إذا كانت أفعاله مشينة وقبيحة وضعته في ورطة بسبب موقعه أو وظيفته، وهكذا وحتى لا تسوء سمعة الإنسان وبالتالي تصبح مصداقيته بين قوسين، فإنه يضطر إلى التبرير..!
 

والناس إزاء هذا الموقف "التبريري" ألوان وأشكال؛ منهم من يقتصد في قول الحقيقة ويجزئها عمدا وعن سبق إسرار، حيث بإمكانه أن يقول ما يريد ويسكت عما يشاء، ومنهم من يكذب على الهواء مباشرة بلا حياء، فتراه يرصف الكلام وينمقه ويرسله إرسالا حتى لينطبق ذلك المثال السائر الذي يقول: كلما احتاج موقفك لشرح أكثر، كلما كانت الكذبة التي وراءه أكبر! ومنهم من لا يقول شيئا وإنما يفضل الانحناء للعاصفة حتى تمر بسلام وأمان وكأن شيئا لم يقع!
 

ولا تخفى هنا الروح البراغماتية التي تطبع هذا المسلكيات جميعها، خاصة إذا كانت الذات مرتبطة وملتزمة في علاقة تعاقدية مع الجماعة كالذات السياسية مثلا، حيث يغدو عندها الفعل بحد ذاته أهم من المبدأ، والنسبي المتحرك أولى من الثابت، وبحكم تورطها في ممارسة الشأن العام، وبحكم تعرضها للإحراج المستمر والدائم؛ فالذات السياسية هي الأكثر وبالتالي الأقدر على المناورة والتفنن في هندسة و فبركة تبريرات وذرائع لا تُقنع بها إلا نفسها ومن لف لفها وصدق زعمها أو استفاد من وجودها وبقائها.
 

هذا النزوع الإنساني الخالص إذا؛ قد يكون عملا "لا أخلاقيا" خاصة إذا كان دافعه الهوى والمصلحة والأنانية المفرطة، إذ يَبنِيه صاحبه على مغالطات وأوهام تقوم بدور "تعويضي" عن الفعل الحقيقي والمنطقي الذي كان ينبغي أن يكون بدل التستر عنه وإخفاءه، وليس هناك أبشع من تلك الأوهام التي يُغلّفها صاحبها بآيات قرآنية وأحاديث نبوية ويحول نكسته إلى موعظة تقطع القلوب وتستفز في النفوس عواطف الشفقة والرحمة.
 

ما يميز القناعات الجديدة أو الدعائم التي يخلقها المبررون بين عشية وضحاها، والتي تنبت كرؤوس الشياطين مبتورة عن سياقها، هو أنها لا تكون مؤسسة على مراجعة مقصودة وهادفة للمنطلقات والتوجهات والعقائد التي أضحت رثة وبالية.

إن ما يقوم به المُبرّر على وجه الحقيقة إنما هو خلق وابتكار قناعات جديدة، أو بعبارة أدق؛ فهو يقوم بعملية "تحيين" لقناعاته القديمة التي لم تصمد ولم تعد لها أية فاعلية أو مقدرة تفسيرية أمام تيار الأحداث الجارف، وبالتالي غدت لا تتناسب وظروف المرحلة التي تعيش فيها، وعوض أن يقوم الإنسان بـ "التوبة" ونقد الذات والاعتراف بالفشل فإنه يتعلق بالأوهام إلى أبعد حد. ومن ذا الذي يستطيع أن يعلنها جهرة أمام الله والناس والتاريخ: أني أخطأت الطريق وأسأت التصرف وقد حان الأوان لأراجع ذاتي ومنطلقاتي؟
 

من البيّن أن ما يميز القناعات الجديدة أو الدعائم التي يخلقها المبررون بين عشية وضحاها، والتي تنبت كرؤوس الشياطين مبتورة عن سياقها، هو أنها لا تكون مؤسسة على مراجعة مقصودة وهادفة للمنطلقات والتوجهات والعقائد التي أضحت رثة وبالية، وإنما تعكس خللا بنيويا ينخر الذات ويتخذ إذ ذاك تمظهرات شتى، أسوأها مرض "الكبر" الفكري والمنهجي المتجلي أساسا في عدم القدرة على الاعتراف بفشل التوفيق بين القول والعمل، أو بين التنظير والممارسة..
 

لكني أعتقد أن أسوأ تمظهرات هذا الخلل هو عدم القدرة على الصمود أمام "الإغراءات" وما يتبعها من إحباط أمام لذتها التي لا تقاوم، الشيء الذي يؤدي إلى خيانتها والانقلاب عليها في أي لحظة وبلا أي شعور بتأنيب الضمير! وبعد؛ أية فظاعة ودناءة ولعنة ترافق أولئك المبررين الذين تستحيل معهم الهزائم الضاربة إلى نشوة وانتصار؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.